منذ انطلاق الثورة السورية، تبدّت الصورة كفعل مضاد لوضوح حزب "البعث". النقاء البصري المطلق الذي تراكم عبر أربعة عقود، من دون أن يخدش عيون السوريين، راح ينهار أمام عدسات شرهة تجد في مشهديات الثورة مقاربات عينية جديدة لهتك ما سبق والانتقام منه. عدسات تلتقط كل تفصيل ولحظة وانفعال لتحطم بعضاً من إطلاقية "البعث" البصرية وتُعمل تنكيلاً بها.
البعثنة واحتلال العين
الصورة السورية دخلت بعد وصول البعث إلى السلطة، حيز الحياد، ولم تعد تملك أي بعد سياسي. إذ اختصر الأسد المجال البصري ووزع وجهه نسخاً في أنحاء البلاد. لم يكن هدف
ذلك زرع الخوف فقط وتذكير المجتمع طوال الوقت بأن هنالك دكتاتوراً وحشياً يحكمه، ثمة غرض آخر تمثل باحتلال العين وأسرها.
كان لا بد للبصر السوري أن يتبعثن وتصبح آلية إنتاج الصور أقرب إلى استنساخ المستنسخ، بلا خيال، أو انحراف نحو هامش ما. تلك البعثنة البصرية، لم تكن في جوهرها، سوى عبادة قسرية للوضوح، صورة القائد معمّمة، معقمة، نقية، لا نتوءات فيها أو شوائب. وضوح نظيف يخلو من المعنى ويحيل كل ما حوله إلى زاوية واحدة مهما تعددت جوانب البصر، تبقى هذه الزاوية أسيرة اختناقها.
صورة (القائد) إذاً، تتسع لابتلاع بلد كامل وتحويله إلى حيّز ضيق تراه بدل أن يراها. وجوه الأسد المتكاثرة في جميع المدن والقرى، كانت ترى المجتمع وليس العكس. تبادل الرؤية هذا، يمكن أن يساهم قليلاً في فهم مصطلح احتلال العين السورية، تمهيداً لتقييدها سياسياً وإعلان بعثنتها.
والحال، فإن البعثنة، تبدّت طوراً من أطوار الوضوح الأبدي، الذي يستوي مع الاستقرار العام ويعيد إنتاجه بصراً أحادياً، لا مفاجآت فيه ولا انحرافات تبدّل مساراته. كل ذلك دفع الصورة السورية للدخول في زمن الثبات المحايد، وباتت سورية نفسها أشبه بتفصيل من لوحة طبيعة صامتة، تفتقر إلى التأويل أو الدلالة، وقبلهما إلى المعنى، فتصبح امتداداً للمحتل البصري الأوحد.
غياب الحدث، وإخضاع البلاد لحال الرتابة، ساعد على تعفّن الصورة، وتقلّص ممكناتها، فالعلاقة بالزمن انقطعت أو تعطلت، وتسلل الأبد القاتل إلى المشهديات اليومية ليمنع تحولها إلى صور ذات معنى ويجعلها معادلاً سريعاً للذكرى. لا مسافة بين الصورة البعثية وزمنها، غالباً مع تتطابق مع جمودها لتتبدى عند لحظة التقاطها ذكرى لا تحتمل أي انتظار لتستحق الصفة.
إقرأ أيضاً: تغطية أحداث الثورة: كلّ شيء سوري... روتيني
الغباشة تتحدى الوضوح
لدى تشكيكه بصور المتظاهرين المعارضين، الملتقطة بعدسات الهواتف المحمولة، لم ينتبه إعلام النظام السوري أو ذلك المتحالف معه، أن الصورة البعثية الصلبة بدأت تنهار، وغباشة الوجوه وعشوائية الكادرات ليست سوى خدش متعمّد لقداسة الوضوح الأسدي.
لم تتضح وجوه المتظاهرين، في صور تلك المرحلة، وبدت أجسادهم متلاصقة، تتماهى مع اللافتات والشعارات المرفوعة. كانت أقرب إلى اختلاط العناصر، المادي يذوب بالبشري، في لحظة غموض، تقاوم كل ما هو مفهوم وتنتصر للأسئلة: من هؤلاء؟ كيف تجرأوا على التظاهر ضد النظام؟ هل سيستمرون؟
توليد الأسئلة ساهم في تحطيم الصورة البعثية التي تميل إلى الجواب الصارم وتتوعّد مَن يخالف تأويلها الأوحد بأقسى النتائج. كما تمظهرت السمة التساؤلية كمؤشر مهم على انخراط الصورة السورية في أحوال التسيّس، وقد تحالفت الغباشة مع السؤال لتقضي على وضوح البعث وجوابه البليد، فتنتج مشاهد مسيّسة لا مكان فيها للحياد أو للبلاهة الخالية من المعنى.
وبدأ البصر السوري العام يستعيد قدرته على المبادرة، بالتوازي مع الحركة التي دخلت إلى الصورة بقوة وجعلتها أكثر سيولة واتساعاً. عاد الذهن المتلبد قسراً إلى التفاعل مع الحالة البصرية الجديدة، يصوغها وتصوغه، انطلاقاً من موقف سياسي معارض، يمدّ الصور بالمعنى ويمنحها إمكانية التأويل. الحركات والأوضاع والأمكنة، انتقلت من الحياد القاتل إلى امتلاك التعريف وتحديد الهوية.
هكذا، استعيض عن وضوح البعث الذي اختزن الفراغ والعقاب والبلاهة، بوضوح جديد، يعيد بناء هوية الصورة السورية، بشكل ضدي من تلك الحالة الهلامية التي كانت تعتريها سابقاً. لكن هذه الضدية التي حملت بعداً إيجابياً في تهديم مشهدية البعث، حملت أيضاً بعداً سلبياً، إذ سرعان ما سقطت الصورة مجدداً في فخ الإيديولوجيا. ورغم أن الأخيرة امتلكت هذه المرة، معنى وتأويلاً، على نقيض عقود البعث السابقة، فتمثلت وقائع الثورة وتفاصيلها، لكنها أعادت إدخال الصورة إلى حال التنميط، والذي وصل ذروته في مرحلة العسكرة.
إقرأ أيضاً: سوريّون في تركيا.. طبابة وبحر وحدائق ونظام
نفي السياسة من جديد
قطعت صورة العسكرة علاقتها بالذهن، وتحولت إلى آلية تقنية تعيد صناعة الميدان دون التفكير به، مستفيدة من سماكة الإيديولوجيا الصلبة التي طغت على أدبيات الثورة في مواجهة النظام. ساهم ذلك في إضعاف السياسة داخل صور تلك الحقبة واستبدالها بكل ما هو شعبوي وغير قابل للتصريف الذهني. صحيح أن ذلك لم يعن العودة إلى البعثنة الأسدية، لكنه كشف انزلاقاً
خطيراً إلى الأيقنة وتحويل الأحداث لوقائع بطولية انتصارية لا مكان فيها للتأويل والفهم. حتى الحركة التي كانت عنصراً حاسماً للقطع مع بلادة البعث، تبدّت هنا جزءاً من صناعة الأسطورة الثورية، بصراً ورؤية.
تراكمت صور المعارك والمقاتلين لتنتج سردية مشهدية جديدة، تثبّت المعنى عند حدوده الأصلية، أي محاربة النظام، وتكبح كل إمكانية لتطويره في سياق يستكمل ما حصل مع بداية التظاهرات. وانحصرت مهام الصورة في نقل الواقع المعسكر وتقديسه، كتكتيك حربي، يستخدم ضد الخصم ويحاول إضعافه معنوياً. ما عطّل كل الممكنات الأخرى التي من شأنها توفير حال بصري لا يعتمد الصورة كأداة للصراع، وإنما حاجة طبيعية لتوسيع الواقع وإبراز خفاياه وهوامشه. أخطر ما في العسكرة صياغتها متناً بصرياً صلباً يختزل الواقع ويثبّت وقائعه بوصفها إحالات انتصارية لا جدل فيها. تجاوز الأداتية، كان شرطاً لازماً للتأسيس على صور التظاهرات وجعلها مادة أولى لصوغ هوية جديدة للصورة السورية لا تقطع مع حيادية البعث وفراغه فحسب، بل تقاوم حصرها ضمن وظائف نقل الواقع وإعادة إنتاجه لأغراض وأهداف إيديولوجية.
احتمالات وممكنات
تتوزع احتمالات الصورة، بعد أربع سنوات على اندلاع الثورة في سورية، بين العسكرة التي
باتت ممزوجة بالتطرف، ما يزيد من صلابة وثوقيتها، ومشاهد إنسانية تحاول استدرار تعاطف العالم، وأخرى تتصل بالنظام، لا تتنكر لصفاتها البعثية السابقة، لكن تضيف عليها بعضاً من ميثولوجيا المليشيات الحليفة التي تقاتل معه. رغم هذه الاحتمالات، يصعب حسم المآل الذي ستبلغه الصورة السورية، فعدم رهن المشهد الصادر عن الواقع بالواقع نفسه، يفتح ممكنات، ليس من السهل التكهن بطبيعتها.
إقرأ أيضاً: أربعُ سنوات كاملة من الترحال واللجوء
البعثنة واحتلال العين
الصورة السورية دخلت بعد وصول البعث إلى السلطة، حيز الحياد، ولم تعد تملك أي بعد سياسي. إذ اختصر الأسد المجال البصري ووزع وجهه نسخاً في أنحاء البلاد. لم يكن هدف
كان لا بد للبصر السوري أن يتبعثن وتصبح آلية إنتاج الصور أقرب إلى استنساخ المستنسخ، بلا خيال، أو انحراف نحو هامش ما. تلك البعثنة البصرية، لم تكن في جوهرها، سوى عبادة قسرية للوضوح، صورة القائد معمّمة، معقمة، نقية، لا نتوءات فيها أو شوائب. وضوح نظيف يخلو من المعنى ويحيل كل ما حوله إلى زاوية واحدة مهما تعددت جوانب البصر، تبقى هذه الزاوية أسيرة اختناقها.
صورة (القائد) إذاً، تتسع لابتلاع بلد كامل وتحويله إلى حيّز ضيق تراه بدل أن يراها. وجوه الأسد المتكاثرة في جميع المدن والقرى، كانت ترى المجتمع وليس العكس. تبادل الرؤية هذا، يمكن أن يساهم قليلاً في فهم مصطلح احتلال العين السورية، تمهيداً لتقييدها سياسياً وإعلان بعثنتها.
والحال، فإن البعثنة، تبدّت طوراً من أطوار الوضوح الأبدي، الذي يستوي مع الاستقرار العام ويعيد إنتاجه بصراً أحادياً، لا مفاجآت فيه ولا انحرافات تبدّل مساراته. كل ذلك دفع الصورة السورية للدخول في زمن الثبات المحايد، وباتت سورية نفسها أشبه بتفصيل من لوحة طبيعة صامتة، تفتقر إلى التأويل أو الدلالة، وقبلهما إلى المعنى، فتصبح امتداداً للمحتل البصري الأوحد.
غياب الحدث، وإخضاع البلاد لحال الرتابة، ساعد على تعفّن الصورة، وتقلّص ممكناتها، فالعلاقة بالزمن انقطعت أو تعطلت، وتسلل الأبد القاتل إلى المشهديات اليومية ليمنع تحولها إلى صور ذات معنى ويجعلها معادلاً سريعاً للذكرى. لا مسافة بين الصورة البعثية وزمنها، غالباً مع تتطابق مع جمودها لتتبدى عند لحظة التقاطها ذكرى لا تحتمل أي انتظار لتستحق الصفة.
إقرأ أيضاً: تغطية أحداث الثورة: كلّ شيء سوري... روتيني
الغباشة تتحدى الوضوح
لدى تشكيكه بصور المتظاهرين المعارضين، الملتقطة بعدسات الهواتف المحمولة، لم ينتبه إعلام النظام السوري أو ذلك المتحالف معه، أن الصورة البعثية الصلبة بدأت تنهار، وغباشة الوجوه وعشوائية الكادرات ليست سوى خدش متعمّد لقداسة الوضوح الأسدي.
لم تتضح وجوه المتظاهرين، في صور تلك المرحلة، وبدت أجسادهم متلاصقة، تتماهى مع اللافتات والشعارات المرفوعة. كانت أقرب إلى اختلاط العناصر، المادي يذوب بالبشري، في لحظة غموض، تقاوم كل ما هو مفهوم وتنتصر للأسئلة: من هؤلاء؟ كيف تجرأوا على التظاهر ضد النظام؟ هل سيستمرون؟
توليد الأسئلة ساهم في تحطيم الصورة البعثية التي تميل إلى الجواب الصارم وتتوعّد مَن يخالف تأويلها الأوحد بأقسى النتائج. كما تمظهرت السمة التساؤلية كمؤشر مهم على انخراط الصورة السورية في أحوال التسيّس، وقد تحالفت الغباشة مع السؤال لتقضي على وضوح البعث وجوابه البليد، فتنتج مشاهد مسيّسة لا مكان فيها للحياد أو للبلاهة الخالية من المعنى.
وبدأ البصر السوري العام يستعيد قدرته على المبادرة، بالتوازي مع الحركة التي دخلت إلى الصورة بقوة وجعلتها أكثر سيولة واتساعاً. عاد الذهن المتلبد قسراً إلى التفاعل مع الحالة البصرية الجديدة، يصوغها وتصوغه، انطلاقاً من موقف سياسي معارض، يمدّ الصور بالمعنى ويمنحها إمكانية التأويل. الحركات والأوضاع والأمكنة، انتقلت من الحياد القاتل إلى امتلاك التعريف وتحديد الهوية.
هكذا، استعيض عن وضوح البعث الذي اختزن الفراغ والعقاب والبلاهة، بوضوح جديد، يعيد بناء هوية الصورة السورية، بشكل ضدي من تلك الحالة الهلامية التي كانت تعتريها سابقاً. لكن هذه الضدية التي حملت بعداً إيجابياً في تهديم مشهدية البعث، حملت أيضاً بعداً سلبياً، إذ سرعان ما سقطت الصورة مجدداً في فخ الإيديولوجيا. ورغم أن الأخيرة امتلكت هذه المرة، معنى وتأويلاً، على نقيض عقود البعث السابقة، فتمثلت وقائع الثورة وتفاصيلها، لكنها أعادت إدخال الصورة إلى حال التنميط، والذي وصل ذروته في مرحلة العسكرة.
إقرأ أيضاً: سوريّون في تركيا.. طبابة وبحر وحدائق ونظام
نفي السياسة من جديد
قطعت صورة العسكرة علاقتها بالذهن، وتحولت إلى آلية تقنية تعيد صناعة الميدان دون التفكير به، مستفيدة من سماكة الإيديولوجيا الصلبة التي طغت على أدبيات الثورة في مواجهة النظام. ساهم ذلك في إضعاف السياسة داخل صور تلك الحقبة واستبدالها بكل ما هو شعبوي وغير قابل للتصريف الذهني. صحيح أن ذلك لم يعن العودة إلى البعثنة الأسدية، لكنه كشف انزلاقاً
تراكمت صور المعارك والمقاتلين لتنتج سردية مشهدية جديدة، تثبّت المعنى عند حدوده الأصلية، أي محاربة النظام، وتكبح كل إمكانية لتطويره في سياق يستكمل ما حصل مع بداية التظاهرات. وانحصرت مهام الصورة في نقل الواقع المعسكر وتقديسه، كتكتيك حربي، يستخدم ضد الخصم ويحاول إضعافه معنوياً. ما عطّل كل الممكنات الأخرى التي من شأنها توفير حال بصري لا يعتمد الصورة كأداة للصراع، وإنما حاجة طبيعية لتوسيع الواقع وإبراز خفاياه وهوامشه. أخطر ما في العسكرة صياغتها متناً بصرياً صلباً يختزل الواقع ويثبّت وقائعه بوصفها إحالات انتصارية لا جدل فيها. تجاوز الأداتية، كان شرطاً لازماً للتأسيس على صور التظاهرات وجعلها مادة أولى لصوغ هوية جديدة للصورة السورية لا تقطع مع حيادية البعث وفراغه فحسب، بل تقاوم حصرها ضمن وظائف نقل الواقع وإعادة إنتاجه لأغراض وأهداف إيديولوجية.
احتمالات وممكنات
تتوزع احتمالات الصورة، بعد أربع سنوات على اندلاع الثورة في سورية، بين العسكرة التي
إقرأ أيضاً: أربعُ سنوات كاملة من الترحال واللجوء