صناعة الموسيقى وتحوّلاتها في مهبّ كورونا

26 مايو 2020
("موسيقى الجذر" لـ ماكوتو نومورا، 2012، تصوير: ياماموتو تاداسو)
+ الخط -

بعد إلغاء حفلات ومهرجانات موسيقية مؤخّراً، بات الشكّ يحيط إمكانية إقامة بقية التظاهرات المبرمجة حتى نهاية العام، كما أغلقت محلّات الأسطوانات الموسيقية في مدن عديدة حول العالم مع مؤشّرات إلى انخفاض في المبيعات.

في المقابل هناك ازدياد في الاشتراك في مواقع الشركات التي توزّع منتجاتها الموسيقية على الشبكة، بحسب تقارير صحافية، وعودة للاستماع إلى الراديو، وتنظيم عروض عزف مباشرة للعديد من الفرق والموسيقيين تلقى تفاعلاً ملحوظاً.

هل تتوقّع تغيّرات في عادات المستمعين ومتذوّقي الموسيقى بعد الجائحة، وما أبرزها؟ وماذا عن التغيرات التي ستحلّ بصناعة الموسيقى وتداعياتها خلال الشهور المقبلة؟ وكيف ينعكس ذلك على المؤلّفين الموسيقيّين والعازفين، وما هي الوسائل التي يمكنهم من خلالها مواجهة إلغاء الحفلات والمهرجانات؟ وكيف ينظرون إلى الموسيقى التي قد تشهد تغيّرات في إنتاجها وأسواقها وتلقيها؟

تساؤلات عديدة تطرحها "العربي الجديد" على طاولة نقاش موسيقيّين عرب، للاستماع إلى آرائهم حول موضوعات تلحّ على بالهم، وتهمّ الجمهور الذي تغيّرت بعض عاداته بعد عزلة الكثير منهم منذ قرابة شهرين.

يقول الباحث والموسيقي الأردني عبد الوهاب الكيالي: "الصناعة الموسيقية العالمية بدأت بالاتجاه نحو الإنترنت مع إطلاق موقع iTunes. هنا بدأت ثورة في عالم مبيعات الموسيقى، حيث أصبح باستطاعة المتلقّي أن يشتري أغنية أو مقطوعة مفردة دون أن يشتري الألبوم الكامل. ثم مع انتشار تطبيقات الاستماع عبر الشبكة المبنية على الاشتراكات كـ Spotify وApple Music و"أنغامي" في العالم العربي، أغنت هذه التطبيقات المستمع عن الراديو وعن شراء الموسيقى".

عبد الوهاب الكياليويرى أن "الجائحة ستعجّل من هذه التوجّهات نحو الاعتماد على الإنترنت كمصدر شبه حصري لتلقّي الموسيقى المسجّلة. سيعني ذلك المزيد من التحدّيات للموسيقيّين لإيجاد مصادر دخل، لا سيما أن العروض المسرحية الحية (والتي يعتمد عليها العازفون بشكل أساسي للدخل) لا يبدو أنها ستكون متاحة خلال عام 2020، ومداخيل التطبيقات محدودة جدّاً للأغلبية".

كما يوضّح الكيالي أن "العزف المنفرد أو الجماعي على وسائل التواصل الاجتماعي قد يشكّل بديلاً مرحلياً ومؤقتاً، ولكنه بحاجة لمأسسة وتنظيم ورعاية من قبل جهات مانحة. لا يمكن التوقّع بأن الموسيقيين والعازفين سيظلون يقدّمون منتجهم بلا مقابل، والجهات الثقافية الريادية على وعي بأنه يجب أن تدعم هذا النوع من العروض لكي يستمر".

ويشير إلى أن "المجلس الكندي للثقافة والفنون" وبالشراكة مع "فيسبوك" تبنّى، على سبيل المثال، مشروع دعم العروض الموسيقية الحية عبر مواقع التواصل الاجتماعي بتقديم منح تصل إلى مائة ألف دولار كندي للعرض الواحد". أمّا أردنياً، وإن بموارد محدودة، فيقدّم مشروع أوركسترا حجرة الاتحاد وصالون الاتحاد للموسيقى الشرقية الذي تأسّس العام الماضي، بدعم من "بنك الاتحاد"، عروضاً حيّة لتشجيع المواطنين على البقاء في منازلهم.


يختم الموسيقي الأردني بالقول: "هذه مبادرات مفيدة ونشيطة على المدى القصير، ولكنها لا تغني عن الحفلات والمهرجانات والعروض المسرحية الحية للموسيقى - لا منناح ية الأداء ولا التلقّي - في المدى القصير إلى المتوسّط، حتى وإن استطعنا تجنّب الكارثة الصحية، سيكون الأثر الاقتصادي للجائحة كبيراً على جميع القطاعات ومن ضمنها الصناعة الموسيقية".

قراءة أولية لمشهد لم تتّضح معالمه بعد يشترك فيها الموسيقي الفلسطيني أحمد الخطيب، الذي يلفت إلى أنّ "الوضع مبهم ولا أحد يستطيع التنبّؤ بما ستؤول إليه الأحداث. قد يكون ما يحدث حالياً من ثورة فنية في عالم شبكة التواصل الاجتماعي، ودفع بكثير من الفنّانين إلى تطوير وسائل قد تكون جديدة للبعض في التواصل مع الجمهور، مع التحفّظ على الكم الهائل من عمليات البث الفني التي لا ترقى إلى الحد الأدنى من القيمة الفنية من جهة، وأحياناً لا ترقى إلى القيمة التقنية في طريقة العرض".

أحمد الخطيبيتابع: "حالة أخرى أراها خطيرة جدّاً على التقاليد الموسيقية، تتمثّل في غياب احترام العمل الفني، سواء من قبل المتلقي وحتى من قبل بعض الفنانين، حيث أصبح التقليد الفني خالياً من أيّ قدسية واحترام، من خلال الدخول والخروج والتعليقات وكلّ أشكال التسلية الرقمية التي شوّهت العملية وأفقدتها قيمتها. ولكن بالمقابل قد يكون ما يحدث عامل تجسير حيوي بين أشكال الفن المختلفة والجمهور".

يستدرك الخطيب: "مستقبل العالم الفني والثقافي يبدو مجهولاً ومخيفاً، ولا أعتقد أن ما يحدث الآن سيشكّل بديلاً حقيقياً يغني عن ميكانيكية الحياة الفنية بشكلها الحيّ، فمع كلّ ما تضيفه الإنتاجات الموسيقية وتساهم به في الترفيه والتخفيف على الجمهور من وقع هذه الجائحة، ستبقى حالة عابرة تتناسب مع المرحلة لأمد قصير، لكن من المستحيل أن تغني صورة الموناليزا في شاشة الجوّال أو الحاسوب عن الإحساس الحقيقي بالتمعّن في تفاصيلها الحيّة والوقوف أمامها في صالة العرض"، مضيفاً: "من المستحيل أن نأخذ الجرعة الموسيقية السليمة من خلال عرض منقول رقمياً، ولا تلامس آذاننا وأحاسيسنا تردّدات وصدى النغمات وانعكاسها من على جدران المسارح".

في تحليله للممارسات المستجّدة بعد كورونا، يقول الموسيقي الكويتي والباحث في الموسيقى الإثنية أحمد الصالحي: "هناك توجّه لإقامة حفلات عبر الإنترنت، والذي يبدو أنه سيعزّز أكثر من الحفلات الفردية التي تعتمد فيها على العازف أو المغني المنفرد، إلّا أن معظم التجارب التي تمّت دون تواصل فعلي مع المتلقيّ تعتبر ضعيفة موسيقياً وذات محتوى متدنٍ".أحمد الصالحي

يتابع "الموسيقى حالة اجتماعية، بل هي ركن أساسي في التجمّعات البشرية منذ بداية التاريخ، لذلك فإن العزل والتباعد يضرّان بها كثيراً، إلا إذا ظهرت صيغة موسيقية جديدة ذات جودة عالية، وهذا غير موجود حالياً. قد تتغيّر العادات نوعاً ما إلى حين، فمع انجلاء هذه العزلة ستعود الأمور إلى طبيعتها، وينجذب الناس إلى الأسلوب السائد قبل العزلة، لكن ذلك لا يمنع بروز بعض الأسماء كعازفين أو مطربين بصفتهم الفردية، إذا استطاعوا البروز أثناء العزلة".

ينبّه الصالحي إلى أن كثيراً من التفاعل والثناء يحدث بسبب التعاطف أكثر من الاعجاب بالموسيقى، فالوضع الصحي والاجتماعي جعل الناس أكثر تعاطفاً وتسامحاً مع الآخرين، وأكثر تقبّلاً لمحاولات التجريب، ولكن بعد فترة وعند الوصول لحالة التشبّع، سيتمّ تقييم ما يقدَّم وغربلته ليستمر ما هو ملائم لذوق الناس، ويسقط العمل الذي يستجدي التعاطف ويستغل الوضع الحالي".

المساهمون