صدر قديماً: "أقْومُ المسالك".. الاقتباس في السياسة

25 فبراير 2017
(خير الدين التونسي)
+ الخط -
في الأصل، كان كتاب "أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك"، لـ خير الدين التونسي (1822- 1889)، تدوينًا لرحلاتٍ قام بها هذا الوزير-الدبلوماسي إلى عشرينَ بلدًا أوروبياً، قادمًا من الإيالة التونسية. فقد دوّن في هذا المُجلد، الصادر سنة 1867، مظاهر الحضارة في هذه البلدان، ولا سيما إنكلترا وإيطاليا وفرنسا حيث أقام ما بين 1853 و1867، وفيها التقى بِكبار ساستها ومُفكريها وتناقش معهم حول أنجع السبل للنهوض بالعالم الإسلامي.

وارتأى أن يصدّر رحلته تلك، التي وصفَ فيها آليات الاقتصاد الليبرالي وأنظمة الحكم الجمهوري، بمقدمةٍ تحليلية، جرياً على ما أنجزه سَلفه ابن خلدون في تاريخه. فَبيَّن فيها خلاصة أفكاره عن الإصلاحات التي ينبغي أن يلتزمَ بها المسلمون، شعوبُهم والقادة، لإعادة امتلاك أدوات التمدن. فما هي أهم هذه الوسائل وما أبعادها؟

كتب هذا المصلح التونسي، (وهو من أصلٍ شركسي، رُبِّيَ في الآستانة التركية) تأملاته السياسية، حين اعتزل البلاط تعبيرًا منه عن رفض القرارات التبذيرية ومشاريع "جنون العظمة" التي أطلقها حاكم الإيالة التونسية آنذاك أحمد باشا باي (1806-1855)، والتي أرهقت ميزانية البلاد، وهي الفقيرة "حسّا ومعنى"، بحسب عبارة المؤرخ ابن أبي الضياف.

فكان من عواقب قراراته تداينُ البلاد المفرط من البنوك الفرنسية، مما هَيّأ الأرضية للاستعمار، بعد قرابة عَقديْن. فما كان من خير الدين إلا أن أكبَّ على التفكير، بعد زياراته الدبلوماسية وحضور جلسات المحاكمة حول الديون التونسية المتخلفة. فَأثار نَفسَ الإشكال الحضاري الذي شغل سائر الإصلاحيين: لماذا تَقدّم الغرب وتأخّر المسلمون في حين أنهم يَملكون -ولو نظرياً- كلّ وسائل التطور؟

أولى هذه الإجابات تكمن في إعادة استكشاف العلاقة بين الشريعة الإسلامية وثقافة الغرب وعلومه، فدلّل، بمهارة الأصوليين وبرهنة الفقهاء، أن لا تناقض بينهما البتةَ: فالشريعة متضمنة لكل جذور التقدم وداعية إليها، لأنَّ تعاليمها لا تخرج عن قيم العدل والمساواة والشورى والحرية، وهي عَينها مُحرّكات التاريخ الغربي الحديث وصانعته، كما كانت أبرز العوامل في تقدم المسلمين في "العصور الذهبية" لحضارتهم، وامتداد سلطانهم في أرجاء المعمورة.

ولذلك نادى خير الدين بضرورة الاقتباس عن الغرب لهذه الوسائل التي شيّد عليها نموه الاقتصادي وتقدّمه السياسي، على أن يكون ذلك الاقتباس موافقًا لنصوص الشريعة ومقاصدها. يقول المؤلف: "الغرض من ذكر الوسائل التي أوصلت الممالك الأوروبيّة إلى ما هي عليه من المنعة والسلطة الدنيوية أن نتخيّر منها ما يكون بحالنا لائقًا، ولنصوص شريعتنا مُوافقاً".

وهكذا كان هذا البَيان من أبرز كتب التحرير السياسي الذي وُجِّهَ إلى ثلاث فئاتٍ من القُرَّاء، سَعى إلى إقناعها بالإسهام الجدي في حركة النهوض بالأمة: فمن جهةٍ أولى وَجّه خطابه إلى عُلماء الدين داعيًا إياهم إلى الانفتاح وإعمال المقاصد عوض التقيد الحرفي بالنصوص، فقد عارضَ بعضُهم فكرة الاقتباس والإصلاح واعتبروها تقليدًا "للإفرنج" وقطعًا مع تراث الإسلام.

ومن جهةٍ ثانية، توجّه بخطابه إلى رجال الحكم في تونس، وهم الذين اشتهروا بالقهر الاستبدادي، بعد أن أفقروا البلادَ والعبادَ بفرض ضرائب مجحفة، وقمع القبائل الثائرة، ورفض أيِّ إصلاح يهدد مصالحهم. وخاطب به أخيرًا المثقفين الأوروبيين، المشكّكين في استعداد المسلمين للقطع مع عصور الانحطاط، وهو ما يفسر ترجمة مقدّمة كتابهِ إلى الفرنسية والإنكليزية، فضلاً عن التركية.

"أقوم المَسَالك"، وإن صيغَ بأسلوب الفَتوى الدينية أو المقالة الإصلاحية، هو أقرب إلى البَيان السياسي الذي يهمُّ العرب في زمنٍ مفصليٍّ من تاريخهم، ولعله من أول ما صيغَ في التفكير المُعَلْمَن، الهادف إلى التحرُّر من إملاءات الشريعة والأخذ الواعي بأسباب التطور باعتبارها وسائل إنسانية لا تخصُّ ديانةً أو ثقافة بعينها، وإنما هي تراث إنسانيٌّ، ولعلَّ فكرة الاقتباس، لديه، إرهاصٌ بمفهوم العولمة.

دلالات
المساهمون