مثلت قصائد أحمد شوقي التي غنتها أم كلثوم، جزءاً مهماً من مسيرة سيدة الغناء. فقد جاءت معظم هذه الأعمال ضمن طبقة "الشواهق" الكلثومية، ونالت مكانة كبيرة بين الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج. بالترتيب التاريخي لميلاد الشوقيات المُكلْثَمَة، فالغالب أن قصيدة "عيد الدهر" المعروفة بمطلعها "الملك بين يديك في إقباله"، كانت أول ما غنته "كوكب الشرق" لـ "أمير الشعراء". إذْ نظمها شوقي في مديح السلطان محمد رشاد الخامس، واختارت أم كلثوم أبياتاً منها لتغنيها بمناسبة تولي الملك فاروق عرش مصر عام 1936، فهي إذاً أغنية مناسبة سياسية، لا تبقى إلا ببقاء مناسبتها. وبالترتيب التاريخي أيضاً، فإن قصيدة "السودان" كانت آخر الشوقيات المكلثمة ميلاداً، إذ غنَّتها أم كلثوم لأول مرة في يوليو/ تمّوز 1954، مواكبة للحراك السوداني المطالب بالاستقلال. فهي أيضاً أغنية مناسبات، لا يطول عمرها، ولا يتحقَّق الانتشار الواسع بين الأجيال التي لم تعش المناسبة، حتى مع جمال اللحن والأداء. ففي بعض مقاطع القصيدة، تبلغ أم كلثوم درجة عليا من التعبير الوجداني الأخَّاذ، ولا سيما مع قول شوقي: "فمصر الرياض وسودانها.. عيون الرياض وخلجانها.. وما هو ماء ولكنه.. وريد الحياة وشريانها".
لكنَّ هذين العملين، الأوَّل والأخير، كانا قوسين متباعدين. وما بين القوسين، جاءت سبعة أعمال، كلها من الخوالد، وبعضها يُعد من أعلى الذرى في تاريخ أم كلثوم والغناء العربي، وهي على ترتيب ظهورها: "سلوا كؤوس الطلا" و"سلوا قلبي" و"نهج البردة" و"النيل" و"ولد الهدى" و"إلى عرفات الله" و"بأبي وروحي". وبمجرد الاطلاع على عناوينها، يتضح أنَّ أم كلثوم قصَرت ما تغنيه لأحمد شوقي على ألحان رياض السنباطي، فأعمال شوقي التسعة التي غنتها السيدة، جاءت جميعاً بألحان السنباطي، لم يشاركه فيها أحد، فاجتمعت لهذه الأعمال: فصاحة الكلمة بشعر شوقي، وفصاحة اللحن بنغم السنباطي، وفصاحة الغناء بصوت أم كلثوم.
"كؤوس الطلا"… الميلاد الحقيقي
كتب شوقي هذه القصيدة بعد أن غنَّت أم كلثوم في منزله بمناسبة خاصة. فقدم "أمير الشعراء" كأس الخمر لصاحبة الصوت الآسر، وهي الفلاحة المحافظة، فرفعت الكأس إلى فمها، ثم وضعته دون أن تشرب. كتب شوقي القصيدة، وذهب بنفسه إلى دار أم كلثوم وسلّمها النص بخطه. ثم رحل في أكتوبر/تشرين الأول عام 1932. وحافظت أم كلثوم على الأبيات إلى أن بدأت التعاون مع السنباطي، عام 1936، فأعطته النص الذي يراه أكثر النقاد والمؤرخين الميلاد الحقيقي للحالة الكلثومية السنباطية التي استمرت 38 عاماً. وفي لحنه للقصيدة، سار السنباطي في خطين متوازيين: خط الالتزام بالشكل الذي رسخه أبو العلا محمد في تلحين القصائد، كالالتزام بإيقاع الوحدة الكبيرة، واعتبار كل بيت مقطعاً مستقلاً عن البيت الذي قبله أو بعده. وخط التفكير المستقل، إذْ وضع بصمته الخاصة، وتمثَّل باللوازم المتشابهة، والقفلات ذات الطابع المشيخي التي تسمح لأم كلثوم بتعريض صوتها، كأنها أحد أكبر القراء الرجال المجوِّدين.
"سلوا قلبي"… سياسة في دين
مرَّت عشر سنوات كاملة، قبل أن تعود أم كلثوم مرة أخرى إلى ديوان شوقي، لتختار هي ومستشاريها 21 بيتاً من أصل 71 نظمها شوقي في قصيدة عُرِفَت بعنوان "في ذكرى المولد النبوي"، وتدفع بها إلى السنباطي، ليدشن بها مرحلة جديدة في تاريخه الفني، ويتسيَّد بها تلحين القصائد الفصيحة عموماً، والديني منها على وجه الخصوص. وما كان إرهاصاً في "سلوا كؤوس الطلا"، أصبح منهجاً واضح المعالم في "سلوا قلبي". ثمَّة طابع صوفي وجداني عميق، يرسّخه الدوران الموسيقي، أو تكرار اللوازم المتشابهة حتى مع اختلاف المقام، مع بناء لحني شديد المتانة، تتجلَّى أبرز مظاهر قوته في اللوازم الموسيقيَّة بين المقاطع، التي تسمح للمطرب بغناء المقطع التالي أو بإعادة المقطع الذي غناه، بالرغم من اختلاف المقامات المستخدمة في تلحين كل مقطع. كان استقبال الجماهير للحن مدوياً، إلى حد إزعاج سلطة الاحتلال البريطاني. وعندما كانت تبلغ أم كلثوم بيت شوقي الشهير: "وما نيل المطالب بالتمني.. ولكن تؤخذ الدنيا غلابا"، كان الجمهور يتقافز على كراسيه، ويهتف بسقوط الاحتلال، فكلمة "المطالب" شاعت، وقتها، في الحياة السياسية المصرية، بمعنى مطالب مصر من بريطانيا. ويرى فيكتور سحاب، أن هذا السياق السياسي لم يكن كافياً لتنال القصيدة هذه المكانة، وأن الاستقبال الجماهيري لم يكن بهذا المستوى "لولا هذه العبقرية في صوغ البناء اللحني، وإلباس المبنى المتين ثروة فاحشة من أجمل الألحان".
نهج البردة
بعد نحو عامين من إطلاق "سلوا قلبي"، قدمت أم كلثوم مفاجأتها الرابعة من ديوان شوقي، فاختارت 30 بيتاً من قصيدة "نهج البردة" المكونة في أصلها من 160 بيتاً، يعارض فيها شوقي قصيدة "البردة" الشهيرة للإمام البوصيري، المتوفى عام 1295 ميلادي، وهي أشهر قصائد المديح النبوي، وأوسعها انتشاراً. وجاءت الأبيات التي اختارتها أم كلثوم وفريق مستشاريها ممثلة للأقسام الثلاثة الرئيسة للقصيدة: الغزل، ثم لوم النفس والاعتذار عن الذنوب، ثم المديح النبوي، فبدت الأبيات المختارة نصاً متماسكاً، لا يشعر معه المستمع بأي أثر للاجتزاء. وقد اختار السنباطي لها مقام "الهزام"، الذي يميل إليه في كثير من الأعمال ذات الطابع الديني. و"الهزام" في هذا اللحن ليس مجرد استهلال نغمي تنسب إليه القصيدة، وتختتم به، ولكنه غلب عليها، ولا سيما في نصفها الأخير. ويمكن أن نقول إن متانة البناء اللحني في هذه القصيدة، تمثلت باللوازم المتشابهة بين مقاطع النصف الأول من النص، والوحدة المقامية (الهزام) في النصف الأخير. كان غناء أم كلثوم لكلمات بهذا المستوى إضافة مهمة إلى مسيرتها الكبيرة وتاريخها الفني العريق.
"النيل" ذروة الغناء الوصفي
لم يمضِ شهران على ميلاد "نهج البردة"، حتى أطلقت أم كلثوم واحدة من أهم قصائد شوقي المغناة وأعظمها، فاختارت 24 بيتاً من قصيدة "النيل" المكونة من 153 بيتاً، وتتَّسم كلماتها بكل سمات الفخامة والجزالة وقوة الصور البيانية. ويقول شوقي في مطلعها: "من أي عهد في القرى تتدفق... وبأي كف في المدائن تغدق". ومن المقدمة الموسيقية الجليلة، يدرك المستمع أنه أمام لحن سنباطي شامخ، بلغ الغاية في هندسته ومتانة بنائه. ويشير فيكتور سحاب في موسوعته عن أم كلثوم، إلى أن السنباطي في ختامه للحن، قد خالف طريقته المعتادة، فلم يُنهِ القصيدة بصوت أم كلثوم، بل "بخاتمة موسيقية يتحاور فيها الناي والفرقة الموسيقية، وبلازمة توحي بمواصلة النيل مسيره إلى البحر. وهذه اللازمة الأخيرة هي نفسها مقدمة الأغنية مما يقوي إحساس المواصلة والاستمرار". في هذه القصيدة بالذات، كانت كلمات شوقي تنافس على "البطولة الأولى" مع لحن السنباطي وصوت أم كلثوم.
"ولد الهدى فالكائنات ضياء"
في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1949، أطلقت أم كلثوم أطول شوقياتها، عندما اختارت 34 بيتا من قصيدة "ولد الهدى" المكونة من 131 بيتاً، ليضع عليها السنباطي أحد أكبر ألحانه، وبطابع صوفي يشعر معه المستمع بأنه يشارك في "حلقة ذكر" أو في مولد من الموالد الشعبية التي تنتشر في ربوع مصر، مؤكداً مرة أخرى قدرته الفائقة على التعامل مع أصعب النصوص الفصيحة، من ديوان "أمير الشعراء". بلحن السنباطي، وعبر صوت أم كلثوم، انسابت أبيات شوقي، تخاطب الوجدان الديني للجماهير: "ولد الهدى فالكائنات ضياء.. وفم الزمان تبسّم وثناء". وانزعج القصر الملكي من بيت شوقي الذي يقول: "الاشتراكيون أنت إمامهم.. لولا دعاوى القوم والغلواء". ومارس ضغوطاً على أم كلثوم لحذفه، لكنها قاومت الضغوط وأصرَّت. وبهذا تكون كلمات شوقي بصوت أم كلثوم قد أثارت حفيظة السلطات مرتين: الأولى في "سلوا قلبي" التي حاول الإنجليز منعها، والأخيرة في "ولد الهدى" التي اعتبرها القصر ترويجاً للأفكار الاشتراكية.
إلى عرفات الله
بعد عام على إطلاق "ولد الهدى"، عاودت أم كلثوم التنقيب في ديوان شوقي، فاختارت 22 بيتاً من قصيدة إلى عرفات الله، تلخص مشاهد الحجيج، زيارة البيت الحرام، ومسجد النبي محمد، وبذل السنباطي جهداً خلاقاً في التعبير عن هذه المشاهد المؤثرة، وبلحن صوفي يلفه الجلال والخشوع والضراعة.
بأبي وروحي
في عام 1954، وقّعت مصر اتفاقية الجلاء مع بريطانيا، فعادت أم كلثوم إلى ديوان شوقي بعد "هدنة" استمرت 3 سنوات، ولم تجد أنسب من قصيدة الجلاء، فاختارت منها 16 بيتاً، ودفعت بها إلى السنباطي، ليتعامل مع كلماتها الصعبة، غير المسبوقة أو المطروقة في الغناء الوطني: "بأبي وروحي الناعمات الغيدا.. الباسمات عن اليتيم نضيدا.. الراويات من السلاف محاجرا.. الناهلات سوالفا وخدودا". وتستمر أبيات شوقي في طريق الغزل، الذي يتبين بعد قليل أنه غزل في مصر وجمالها.