شرعنة الحكم بين الحرب والثورة
تحل الذكرى السنوية لحرب أكتوبر/تشرين الأول، والتي وصفها أنور السادات بآخر الحروب في المنطقة، ويحل معها الجدل، ليس حول قيمة النصر الحقيقي لتلك الحرب المحفورة في وجدان المصريين بالإعجاز والأسطورية، على الرغم من الأقاويل والدراسات والأبحاث والأسرار التي تخرج بين حين وآخر، لتنال من تلك الأسطورية وذلك الإعجاز، إلى الدرجة التي دفعت بعضهم إلى القول إن نصر أكتوبر ما كان إلا أكذوبة من أكاذيب السلطة المستبدة التي اختصرت الحرب في العبور إلى الضفة الشرقية للقناة، والنصر في إزالة خط بارليف.
مع الاعتراف بقيمة هذين العملين العظيمين، لأن الحروب يقاس النصر فيها بنتائجها النهائية على الصعيدين، العسكري والسياسي معاً، وذلك ترتيباً على النتيجة السياسية التي تحققت، بعد الحرب على المديين، القريب والبعيد، والمسؤولة عنها القيادة السياسية، في ذلك الوقت، التي لم تنل من النصر العسكري، سياسياً ودبلوماسياً، إلا ما أريد لها أن تناله فقط، باعتراف أبرز القادة العسكريين لتلك الحرب، وفي مقدمتهم الفريق سعد الدين الشاذلي، والمشير محمد عبد الغني الجمسي.
لكن الجدل الأهم، ليس حول قيمة النصر النهائي، والنتيجة السياسية المترتبة على تلك الحرب، بل حول علاقتها بشرعية الحكم، الشرعية التي استبدلها السادات، الملّقب نفسه بطل الحرب والسلام، بشرعية يوليو، واستخدمها حسني مبارك، صاحب الضربة الجوية الأولى، كما كان يقال له طوال حكمه، إلى أن جاء الانقلابي عبد الفتاح السيسي، والذي لم يشارك أصلاً في تلك الحرب، ومع ذلك لا يتوانى هو، ولا أبواقه الإعلامية المختلفة، من الغرف من شرعية تلك الحرب التي لا تنضب أبداً، مع التماهي، أحياناً، مع شرعية الاختيار والإرادة الشعبية التي حاولت تأسيس قواعدها ثورة 25 يناير المغدور بها، ذراً للرماد في العيون!
ويبدو من ظاهر الحال، أن حرب أكتوبر ما كانت إلا لتأسيس شرعية جديدة للحكم في مصر، بعد ضمور شرعية يوليو التي انتهت بهزيمة 1967، المسماة النكسة، خصوصاً مع عقلية العسكر الحاكمة، والتي لا ترى في الخدمة الوطنية مدفوعة الأجر من الشعب إلا سلطة تخولها الحكم والسيطرة، على الرغم من انقطاع الصلة بين الحرب والحكم، فكثيراً ما كان الرئيس المخلوع، حسنى مبارك، مدفوعاً إلى استدعاء دوره في حرب أكتوبر، لتلميع شرعيته في الحكم، كلما بهتت بفعل الزمن والفشل في مختلف المجالات، ويبقى السؤال من دون إجابة، خصوصاً من النخب المزيفة، ما علاقة الحرب بالحكم؟
وربما يكون هذا السؤال غريباً على مجتمع اعتاد على الشرعيات الفوقية، التي تحددها لنفسها السلطة الحاكمة من دون الاعتداد بالشعب، الذي ليس له سوى التأييد والتسليم والاطمئنان، وبعض الإجراءات الشكلية التي تتزين بها السلطة، فالعلاقة بين الحرب والحكم، كالعلاقة بين الثورة والحكم، التي تصور الثورة على أنها سبيلٌ للحكم وتصور الحكم على أنه ثمن الثورة.
وهذه الخلفية التاريخية الموروثة من شرعية يوليو العسكرية، هي التي كانت إحدى آفات نالت من ثورة يناير الشعبية الخالصة، عندما ظن بعضهم أن يناير كيوليو، يحق لكل من شارك فيه النظر إلى الحكم من دون المرور على بوابة الاختيار الشعبي، على الرغم من أن الهدف الأسمى لثورة يناير كان، ولايزال، إقامة حياة ديمقراطية حقيقية، لا تسود فيها إلا شرعية الاختيار.
وهكذا، كانت ولاتزال حرب أكتوبر وشرعيتها الحاكمة وعقلية الحاكمين والمحكومين بها، فعندما انصاع الرئيس المخلوع، حسني مبارك، للضغوط الداخلية والخارجية، من أجل إدخال تعديل شكلي على قواعد اللعبة السياسية في عام 2005، وتمرد على طريقة الاستفتاءات الناصرية والساداتية ذات المئة إلا قليلاً، وأجرى انتخابات رئاسية شكلية، ليفوز بمدة جديدة، لم يختر في حديثه الانتخابي المطول مع الإعلامي عماد الدين أديب، إلا دوره في حرب أكتوبر التي اختزلها في نفسه، كما كان السادات يفعل، وتجاهل الحديث عن "إنجازاته" السياسية والاقتصادية، عبر مسيرة ربع قرن من الحكم.
على فرض أن الاختيار كان مكتوباً له النزاهة والشفافية والتعبير الصادق عن إرادة الشعب ورغبته، لم يكتف الرئيس المخلوع بتجديد حكمه بشرعية الحرب التي خاضها، على ما يبدو، له بمفرده، بل حاول وأركان نظامه احتواء ثورة الشعب في يناير التي خرجت ضده، وضد شرعيته المزعومة، تأسيساً على دوره في حرب أكتوبر. وعلى هذا، باتت شرعية العسكر في الحكم الأصل فيها بعد يوليو، هي حرب أكتوبر، ولو لم يكن الحاكم العسكري مولوداً وقتها!
وربما لا يدري من يرى أن للحرب شرعية حكم أو للثورة كذلك، بدون الاختيار الشعبي الحقيقي، أنه، بذلك، يهين الحرب وكذلك الثورة، لأنه يصورهما وكأنهما من أعمال المرتزقة التي تستحق المكافأة والثمن.