"عندما تهمل أمراً مهما لم تكن بحاجة إليه حينها، فستكون قد خسرته نهائياً حين تكون بأمسّ الحاجة إليه".
يبحر بك الروائي والمهندس القطري عبد العزيز آل محمود في شراعه المقدس، عبر رواية تعرض لك التاريخ على خريطة متنقلة من أقصى الشرق في مدينة كالكوتا الهندية ليأخذك إلى جزيرة هرمز، من ثم الأحساء، حيث تدور معظم أحداث الرواية، مروراً بعدن، جدة، الإسكندرية وقشتالة، يخوض آل محمود في أرض جديدة بقوة علمية ولغة أدبية وخيال يلامس الواقع، لا يشغلك عن الأحداث التي جرت في الخليج دون أن يهتم لها أحد الآن، والتي تتناول الحقبة التاريخية للاستعمار البرتغالي وسيطرته على تجارة البهارات في منطقة الشرق الأوسط في نهايات القرن الخامس عشر الميلادي، ويدرك أن التاريخ يجر بعضه بعضاً ويبنى آخره على أوله، يقدمه للجيل القديم في هيئة توثيقية وللجيل الجديد في صورة ممتعة ليعرّفه على ما كان وما هو كائن وما يمكنه أن يكون.
تدور قصة الرواية حول عدة عناصر تاريخية، منها: دولة المماليك ويمثلها السلطان الغوري وحسين باشا الكردي، والدولة الجبرية ويمثلها ابن رحال والسلطان مقرن بن زامل والأمير ناصر، ومملكة هرمز ويمثلها الأمير شيرغل والخواجة عطار وابنته حليمة، والاستعمار البرتغالي ويمثله البوكيرك زعيم الحملة ومستشاره والجاسوسان، دون أن تدور الرواية حول شخصية واحدة بعينها في نمط السرد الأدبي التاريخي المعتمد على المكان والزمان اللذان تدور فيهما الحكاية.
"منذ أن وصلتم إلى ديارنا ونحن نعيش في بؤس دائم.. أفسدتم علينا حياتنا، ودمرتم مملكتنا، وصادرتم أموالنا. لقد أصحبت هرمز خراباً بعد أن كانت مركز الدنيا. لقد دمرتم أخلاق البشر قبل أن تدمروا حياتهم. إنكم وحوش أرسلكم الشيطان إلينا. لقد شاهدنا الموت في أشرعتكم التي ساقتكم إلى شواطئنا"، هكذا صدح بالحق الوزير الهرمزي خواجه عطار في وجه "البوكيرك" البرتغالي بعدما ضاقت به الدنيا وتكالبت عليه المصائب في مملكته، واختار آل محمود الاقتباس السابق لغلافه محاولاً منه إيصال رسالة التاريخ من خلال أحداث روايته، ليذكرنا بما لا نلبث أن ننساه في أن التاريخ يعيد إسقاطاته بأوجه مختلفة يلعبها السياسي والتاجر والصديق من أجل وهم المصالح الشخصية دون إدراك أنه أداة في لعبة أكبر، "إنهم يفكرون بخلاف ما نفكر به، وحساباتهم تكاد تختلف عن حساباتنا، فمَن تراه صديقاً لك قد يتحوّل إلى عدوك في لمح البصر، والعكس صحيح، إن الولاء هنا كالماء لا يهم من أين منبعه ما دام يروي العطشان".
يبيّن آل محمود في شراعه جانبين متباينين يعكسان طبيعة المنطقة المسالمة التي آمنت بالتعددية والأصالة، فحين زار جاسوس البرتغاليين عدن، نقل منها إلى مرؤوسيه "قابلت الحبر اليهودي الأكبر في عدن، وما لفت انتباهي هو ذلك التسامح الذي لم أره في البرتغال وإسبانيا، فالتجار هناك يفضّلون أن يكون شركاؤهم من ديانات أخرى، والموانئ تسمح لمتبعي تلك الديانات ببناء معابدهم الخاصة بهم.. حتى نساء اليهود في اليمن منقّبات، ونساء الهندوس يضعن الخمار على رؤوسهن ووجوههن في شوارع كالكوتا، كالمسلمات تماماً.. وعندما يتحدثون لا يخافون من شيء ولا يلتفتون حولهم كما نفعل نحن في البرتغال، إنهم أحرار أيها الحبر، ليس لديهم محاكم تفتيش!".
ثم يصور كي
ف اختُرقت تلك المدن المسالمة، لتصبح مسكونة بالخوف من الآخر بعد حملات العنف والنهب، "أمر البوكيرك السفن بإطلاق حممها على المدينة، وفي خلال دقائق تحولت المدينة الحالمة الوديعة إلى ركام من الحجارة والأشلاء والنيران.. ومن بعيد بدأ مَن بقي من الأحياء بالخروج من تحت الأنقاض ونفض الغبار، وتردد صوت العويل والبكاء في أرجاء المدينة المدمرة وبقي صوت الموج يردد صدى الموت".على الجانب الآخر، يلمس آل محمود مشاعر القارئ بعرضه الجانب الإنساني العميق لشخوص الرواية مازجاً بين اللحظات الرومانسية ومواقف الإثارة والقوة، وبين الغربة والحنين للوطن البعيد، بتفاصيل دقيقة، وكأن سطور الورق تتراقص في عرض سينمائي بديع، فيكتب: "بدأت السفن بترك الميناء.. حتى غادرت كل السفن ولم يبق سوى الأبناء والأحباب والزوجات.. الذين آثروا البقاء لملاحقة آخر نظرة، وآخر رائحة، وآخر إشارة، من الحبيب الذي غادر".
"التفت شيرغل، ملك هرمز، إلى الخلف ليشاهد ما بقي من حياة قبل أن تحتضنه الصحراء بلونها الواحد، وهي عادة دأب عليها البشر حين يغادرون مدينة إلى آخرى، يعيدون النظر إلى المكان الذي يغادرونه وكأنهم يملأون أنظارهم منه للمرة الأخيرة، ثم ينظرون إلى الأمام وكأنهم يأملون في القادم".
عشت بين طيات التاريخ لحظات لم أكن لأتصورها لولا ذلك الشراع الذي بقي بين يدي فترة قصيرة ثم غادرني لتبقى ذكراه محمّلةً بالتضحيات والعبر.
*الإمارات