للصيف في لبنان ميزة خاصة، ليل العاصمة بيروت يتحوّل إلى نهار، سياحٌ في كلّ مكان، وموسيقى صاخبة تحيي ليال المهرجانات، من صور إلى جبيل مروراً ببيروت وساحل كسروان، زياراتٌ إلى البحر والجبل في اليوم نفسه في بلدٍ قيل فيه إنّه من جنّات الله.. على الأرض. هكذا تروّج وزارة السّياحة لصيف لبنان في كل عام، دعاية ترويجية تجمع كازينوهات لاس فيغاس، شواطئ ميامي، مناخ باريس، جمالية لندن وعراقة روما، لكن ما مدى واقعية هذا الإعلان، هل فعلاً صيفُ لبنان فرصة لا تفوّت أم لا؟
لم تبالغ وزارة السّياحة في تظهير وجه لبنان الصيفي، لكنها لم تظهر لبنان كلّه، بل واحاتُ الاصطياف في صحراء من المشاكل التي يعانيها الشّباب اللبناني صيفاً. يمكن للمصطاف أن يختبر تجربةً لن تتكرّر في لبنان، يمكنه السّباحة نهاراً والتّخييم في الجبال ليلاً، يمكنه السّهر حتّى بزوغ أول خيوط النّهار، يستطيع أن يغوص في تاريخ اليونانيين والرّومان بعد زيارة بقايا قلاعهم في بعلبك، جبيل، عنجر وغيرها، سيتذوق من المطبخ اللبناني أطعمةً لطالما تفاخر بها لبنان. بالمختصر، يتمنى الشّباب اللبناني لو أنّه كان مصطافاً في بلده، لربما استطاع أن يرى أو يختبر أشياء لم يرها من قبل مع أنّها بعيدة عنه مسافة دقائق.
ينقسم الشّباب اللبناني إلى ثلاث شرائح في الصّيف، شريحةٌ تجد في الصّيف فرصةً ومتنفّساً ينسون فيه مشاغلهم، فيرتادون المقاهي والشواطئ، ويحوّلون عطلتهم إلى ذكرياتٍ يحفظونها في صورٍ تجتاح مواقع التواصل الإجتماعي، أو يقضون وقتهم نياماً في محاولةٍ لتعويض النّقص الفائت. الشّريحة الثّانية تفضّل السّفر وتمضية العطلة خارج الحدود، بهدف استكشاف مناطق ودول جديدة. يعمل الشّاب اللبناني طوال السّنة كي يجمع بعضاً من المال يستثمره في السّياحة الصّيفية، علمية الهدف كانت أم فقط بغرض السّياحة.
أما الشّريحة الثّالثة من الشّباب اللبناني، فالصّيف بالنّسبة لها هو الخزّان الذي تجمع فيه ما يقيها عوز باقي الفصول، ممكن أن تلتقيها في المقاهي والفنادق، كعمّال، نُدُل ونادلات، معظم هذه الشّريحة هم من الشّباب الجامعي الذي يعمل صيفاً كي يدفع ما عليه من أقساطٍ للجامعات، أو تجدهم على الشّواطئ وكخبراء سياحيين لمن شاء التّعرف على تاريخ الوطن، مع أن هذا الشّريحة تواجه منذ الـ2012 منافسةً من قبل العمّال الوافدين جرّاء الحروب المحيطة بلبنان، ما يضيّق نوعاً ما فرصهم بإيجاد عملٍ موسمي، وإن وجد، فبمردودٍ مالي زهيد.
الصّيف بالنّسبة للبنانيين وفي لبنان، لنقل على امتداد 70% من مساحته، هو رمز المعاناة، إن بسبب أزمة الكهرباء أو انقطاع المياه. جولةٌ بسيطة على الضّواحي والمدن كما القرى، كفيلة بأن يلاحظ الزّائر وجود المئات على سطوح منازلهم، لتعبئة المياه، فالصّيف فرصة يقتنصها تجّار المياه ومافيات الصّهاريج ليسرقوا قدر ما استطاعوا من المواطن، مع أن نسب الأمطار عالية في كل عام، لكن الدّولة الحامية لمافيات الصّهاريج تغيب عن بناء السّدود، وتسدّ الطّريق أمام اللبناني حتّى يجبر على توطين معاشه لدى أصحاب الصّهاريج بدل المصارف والبنوك، ناهيك عن انقطاع الكهرباء صيفاً وذلك لتوفير تغطية كاملة لمناطق الاصطياف، ليجد الشّاب اللبناني نفسه أمام خيارين، إمّا السّكن في برك المياه والأنهار، أو التّحول إلى كائنٍ مشوي. من يصدّق، وصلنا إلى عام 2015، وما زلنا نعاني من انقطاع الكهرباء وتقنينها. قد أبدو متفائلاً إن قلت انقطاع الكهرباء، لكن، لنفترض أن الشّبكات تتغذّى بها في الأصل.
بالنّسبة للسواد الأعظم من الشّباب اللبناني، لا فرق بين صيفٍ وشتاء إلّا بدرجات الحرارة. فتدخين النرجيلة طقسٌ دائم، السّباحة تعدّ امتيازاً طبقياً وتحكمها الطّبقية، يمارسها الجميع حسب قدرته، منهم من يرتاد الأنهار والشواطئ المجانية، ومنهم من يقصد المسابح والشواطئ المكلفة. أتى الصّيف أم لم يأتِ، لن يتأثّر الفقير ولن يجدول مفكّرته على أساس العطلة الصّيفية. لا سفرات سياحية، السّفرة الوحيدة قد تكون بغية إيجاد فرصة عمل، أما ميسور الحال والمصطافين على حدٍ سواء، فلا يسعنا إلّا أن نتمنى لهم عطلةً خيالية في بلدٍ خيالي! بلدٌ يجمع كل المتناقضات الجمالية! بلد تناقضاتٍ قائم بحدّ ذاته.
(لبنان)