سيرة الخوف المستعادة في سورية

27 يونيو 2014

سجن سوري في حلب سيطرت عليه المعارضة (أغسطس/2013/Getty)

+ الخط -


الصور والحكايات التي انتشرت على صفحات التواصل الاجتماعي عن المعتقلين المُفرج عنهم في سورية، بعد مرسوم "العفو"، تعيد سيرة الوطن والخوف إلى التداول، بعد ثلاثة أعوام من انطلاق أهم ثورات التاريخ الحديث ضد أشد الأنظمة السياسية إجراماً وفاشية واستبداداً على مر عصور الزمن. تحكي هذه الصور، والقصص المرافقة لها، حكايات الشباب السوريين الخارجين من معتقلات الظلام والموت، حفاة وشبه عراة، وعلى هيئة هياكل عظمية، بفعل التعذيب والتجويع والقهر والموت البطيء الذي كانوا يتعرضون له طوال مدة اعتقالهم، بحيث يصح عليهم وصف "المنكوش من القبر والخارج إلى الحياة".
يخرجون وهم يغطّون أعينهم، خجلاً من ضوء الشمس، وخجلاً من البشر المستمرين في حياتهم، وخجلاً من البلد الذي قدّموا ما قدّموا له، في سبيل تغييره وتغيير مصيره، وخجلاً من أصدقائهم الذين استشهدوا تحت التعذيب أمام أعينهم، وهم يراقبون متى سيحين دورهم، لولا أن فجوةً في زمن الاعتقال فُتحت، وأتاحت لهم هذا الخروج، ليكتشفوا واقعاً لم يكونوا ليتخيّلوه طوال أيامهم التي لا يتذكرون أنهم تمكنوا من عدّها في زنازينهم، حيث الليل يستمر من دون انقطاع، وحيث الوقت يشير فقط إلى ساعة وصولهم، والتي كان يمكن أن تتغيّر، لحظة خروجهم من ذلك الجحيم، لكن الصدمة أعادت إيقاف الزمن من جديد، إذ لا شيء يبدو أنه تغيّر في السنوات الثلاث الماضية، عدا أن دمشق تحولت إلى ما يشبه الثكنة العسكرية، وعدا أن الموسيقى التصويرية المرافقة تشبه هذا الثكنة، قذائف وانفجارات وأصوات طائرات، وعدا أن طيف الموت يرافق المارة، أينما كانوا.
في ما عدا ذلك، لا شيء تغيّر، محطات التلفزيون السابقة، وهي تسأل الخارجين من الموت عن شعورهم تجاه "مكرمة الحياة" التي مَنَّ عليهم بها القائد التاريخي، الخطاب التلقيني القديم نفسه، الكلمات نفسها التي يستخدمها عناصر الأمن وحرس السجون، الصور نفسها للرئيس الشاب المبتسم، مضافاً إليها، هذه المرة، صور حليفه الملتحي المعمم، مع راية صفراء منسوبة لله. والأهم، الخوف نفسه المغلّف باللامبالاة، يظهر على وجه المارة والعابرين من أمام السجون، وهم ينظرون بأطراف أعينهم إلى المعتقلين المُفرج عنهم، ثم يشيحون بأبصارهم متجاهلين عريهم، ومتجاهلين أقدامهم الحافية، ومتجاهلين آثار الجوع على وجوههم، ويبتعدون، كما لو أنهم يخشون الإصابة بعدوى الاعتقال، أو كما لو كانوا يخشون عيناً تراقب ردود أفعالهم لتحاسبهم عليها!
هنا، وهم يرون كيف يرفض السوريون الاقتراب منهم، والتعامل معهم، سيخطر في بال المُفرج عنهم، بعد سنة أو سنتين أو ثلاث من الاعتقال، وبعد معرفتهم برحيل آلاف من خيرة شباب سورية، في سبيل التغيير، سيخطر سؤال واحد: لماذا حصل كل ذلك كما حصل، ولماذا خسرنا كل ما خسرناه، ما دام الخوف سيعود أشنع ممّا كان، وما دامت اللامبالاة عادت لتكون السياق اليومي للحياة السورية؟ سيسأل هؤلاء الخارجون من الجحيم عمَّن أوصل الحال إلى ما وصلت إليه، وعن التراجع في كل شيء، بعدما كان ثمة هدف واضح وحقيقي وناصع، يسير نحوه الجميع؟ سيتساءلون عمّن يشارك النظام في قتل المدنيين، وعمّن شاركه في تشويه صورة الثورة، وعمّن يشاركه في تدمير الحاضر والمستقبل، بعدما تكفّل هو وحده بالماضي؟  وسيسألون عن معنى الوطن الذي بات أبناؤه يخافون من العيش في حاضره، ويخافون على أولادهم من مستقبله، ويفقد فيه شبابه كل فرص الحياة، وتضيع فيه الكرامة الإنسانية والعدالة، مثلما تضيع الأرواح عشوائياً وعبثاً وبلا أي معنى؟ سيسألون عن السوريين الذين يرفضون التعامل معهم، ويرفضون مساعدتهم، ويرفضون حتى مجاورتهم على الأرصفة وفي الشوارع، ويعاملونهم كالمنبوذين في استعادة سيرة المعتقلين السياسيين قبل مارس/ آذار 2011؟
سيكتشفون أنه لم يبق لهم شيء في سورية. الثورة التي دفعوا من أعمارهم في سبيلها ما دفعوا تحولت إلى ذاكرةٍ رومانسية، وتم استبدالها بحرب تأكل الأخضر واليابس، وأبناء بلدهم، الذين حلموا بالتغيير لأجلهم، يعاملونهم كما الأعداء والغرباء من كل حدب وصوب يعيثون خراباً في سورية. ما هي حلولهم للاستمرار في العيش، عدا الهروب من هذا الجحيم السوري لمَن بقيت روحه متّقدةً منهم، أو البقاء والمشاركة في لعبة الدم ولعنتها، أو البقاء والصمت والتكيّف والعودة إلى أسوأ ما كان قبل 2011؟ سيعود إليهم السؤال عن الوطن، وعن ماهيّته، وهم يفكرون بخياراتهم القليلة المتاحة، وربما سيتمنون، لو أن تلك "المكرمة التاريخية" لم تصبهم، وبقوا هناك، حيث يمكنهم الحلم من دون أن يقطعه عليهم واقع مشروخٌ ومدمّى.

 

 

 

 

 


 

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.