سيجارة واحدة تكفي

05 نوفمبر 2014

بيع سجائر في غزّة ليلة عيد الفطر (أكتوبر/2006/Getty)

+ الخط -

كعادة النساء البائسات قليلات الحيلة، جاءني صوتها عبر الهاتف، تبكي وترجو وتأمل. ولأنني أعرف ظروفها جيداً، طلبت منها أن تتوقف عن هذا، فهي ضحية زواج الأقارب، ولديها ثلاثة أطفال، ولدوا بإعاقات عقلية وخلقية مختلفة، وزوجها المدخن الشره عاطل عن العمل، وتعيش وأولادها من مساعدات الجمعيات والمؤسسات الخيرية ومعونة وزارة الشؤون الاجتماعية، إضافة لمعونة وكالة غوث اللاجئين "أونروا" المقرّرة لأي عائلة لاجئة سيئة الظروف.
جديد فصول مأساة حياتها، أخبرتني بها وهي تتحدث بصوت متقطع من فرط البكاء، فقد حصلت على كيس كبير الحجم والمقاس من حفاظات الأطفال من جمعية خيرية، وأمرها زوجها أن تبيعه لإحدى الصيدليات أو الجارات، فالمهم أن تتصرف وتحرك ساكناً على اعتبار أن لا فائدة ترجى منها في نظره، وتعود بمال له ليشتري علبة سجائر.
 لم أدعها تكمل ما تريد قوله عن الارتفاع الجنوني في أسعار السجائر، هذه الأيام، في قطاع غزة، والذي حوّل زوجها إلى وحش آدمي، كل همه الحصول على السجائر، فهذا الارتفاع في أسعارها بسبب إغلاق الأنفاق، والتي كان يتم تهريب السجائر عبرها من مصر، وإن كانت السجائر قد توفرت في سنوات الحصار، فقد كانت تشهد ارتفاعاً في أسعارها كل فترة، لتزايد الضريبة التي تجبيها دائرة الجمارك على السجائر المستوردة رسمياً، علاوة على تناقص عدد الأنفاق الواصلة بين غزة ومصر تدريجياً، حيث كان يتم تهريب السجائر فيها ويجبي صاحب النفق 50$ عمولة مقابل كل صندوق سجائر يتم تهريبه؛ ليرتفع المبلغ إلى 350$. ومع الوضع السياسي المتفجر، وموقف مصر الرسمي من غزة حالياً، أصبح الحديث عن توفر السجائر لا يكون إلا بضرب المثل الشعبي الذي يساق، عادةً، عند الحديث عن ندرة وغلاء شيء ما، فيقولون "صار الدخان في علب العرايس".
حسب معلومات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، فإن حجم الإنفاق على التدخين في فلسطين عموماً من المتوقع أن يصل إلى 500 مليون دولار، مع نهاية العام، حيث يتزايد الاقبال على شرائه مع زيادة عدد المدخنين، حسب الإحصائية نفسها، وإقبال صغار السن على تدخين السجائر. وعلى الرغم من ذلك، إذا كان التدخين آفة الشعوب والإقلاع عنه يحتاج فيتامين إرادة، فالحال يختلف مع أوضاع غزة، حيث أعلن معظم المدخنين محدودي الدخل والمعدمين أنهم سيواصلون التدخين وشراء السجائر "الفرط"، أي شراء سيجارة كل مرّة، ولن يقلعوا عنه ولو تخلى أحدهم عن الطعام الزهيد مقابل سيجارة. يعلنون ذلك وهم يعلمون أنهم ضحية تآمر المهربين والتجار الذين تسببوا في رفع الأسعار إلى الضعف، كما وقعوا سابقاً ولا زالوا ضحية الفقر والبطالة وغيوم المستقبل، والمشكلات الأسرية المتفاقمة، يوماً بعد يوم، خصوصاً بعد خروج أكثر من 60% من سكان غزة بصدمات نفسية نتيجة العدوان على غزة أخيراً.
ليس غريباً أن تتعثر بباعة صغار على ناصية كل شارع رئيسي في غزة، وجوههم تعلوها الصفرة والبقع البيضاء الناتجة عن إصابتهم بالأنيميا والطفيليات، يعرضون بضاعتهم على شكل سجائر "فرط"، وهم يدخنون منذ نعومة أظفارهم، لأن "طباخ السّمّ يتذوقه"، بتعبيرهم.
توسلت لي بقولها: أرجوكِ أن تتصلي بصاحب الصيدلية التي تقع على ناصية الشارع؛ لكي يشتري منّي" كيس الحفاظات"، سوف أستخدم حفاظات القماش لابني وأغسلها مراراً، ولا يهم أن يصاب بالالتهابات، فهو لا يتكلم ليشكو، وقد اعتدت بكاءه، لكنني لا أستطيع أن احتمل ثورة غضب زوجي إن لم يشتر السجائر، وربما يرسلني إلى بيت أهلي، فلا شيء أمامه ل"فش الغلّ"، بسبب طول بقائه في البيت وعدم وجود مصدر للدخل، سوى التدخين، حتى لو اشترى بآخر شيكل (العملة الإسرائيلية) في البيت سيجارة واحدة، فسيجارة واحدة تكفي.
 
 


 

سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.