تمكن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في الأشهر الأخيرة من انتزاع السيطرة على مناطق عدة كانت سابقاً تحت سيطرة فصائل المعارضة المسلحة في ريف حلب. واستطاع التنظيم من بسط سيطرته الكاملة على مدن منبج والباب وجرابلس ومسكنة ودير حافر وأريافها في ريف حلب الشرقي. كما دخل التنظيم منطقة أعزاز في ريف حلب الشمالي من خلال سيطرته على بلدات عدة في ريفها.
في المقابل احتفظت قوات النظام السوري بالسيطرة على منطقة السفيرة إلى الجنوب الشرقي من مدينة حلب. وتمكنت من انتزاع السيطرة على المدينة الصناعية وعلى السجن المركزي والمناطق المحيطة به إلى الشمال من حلب، ليتعاون الطرفان على انتزاع المناطق التي تسيطر عليها كتائب المعارضة وتتقلص هذه المناطق بشكل تدريجي.
وتُقاتل كتائب المعارضة السورية في ريف حلب منذ مطلع العام الحالي على جبهتي النظام السوري وتنظيم "الدولة الإسلامية" بشكل متزامن. وتقوم كتائب الجبهة الإسلامية وجيش المجاهدين وكتائب الجيش الحر الأخرى بالدفاع عن مدينة مارع والمناطق المحيطة بها في ريف حلب الشمالي، والتي تتعرض لهجمات مستمرة من قوات تنظيم "داعش". وتمكنت الأخيرة أول من أمس من نصب كمين لمجموعة من قوات الجيش الحر في المنطقة، ما أسفر عن مقتل 12 مقاتلاً، بينهم أربع قياديين في ألوية فجر الحرية التابعة للجيش السوري الحر.
في الوقت نفسه، تُقاتل قوات المعارضة المسلحة متمثلة في الجبهة الاسلامية وجبهة أنصار الدين وجيش المجاهدين قوات النظام السوري على بعد 20 كيلومتراً إلى الجنوب من مدينة مارع. وتحاول استعادة بلدتي سيفات وحندرات اللتين سقطتا في يد قوات النظام السوري. وتشهد المنطقة المحيطة بالبلدتين اشتباكات مستمرة منذ أيام بين الطرفين، ينتج عنها عمليات كر وفر يتقدم كل من الطرفين فيها على حساب الآخر لساعات قليلة قبل أن يرد الطرف الآخر بشنّ هجوم معاكس يعيد الأمور إلى ما كانت عليه.
يحصل كل ذلك في الوقت الذي تشهد فيه خطوط التماس بين مناطق سيطرة تنظيم "الدولة الإسلامية" ومناطق سيطرة النظام السوري في ريف حلب الشرقي هدوءاً مستمراً منذ سيطرة التنظيم على ريف حلب الشرقي.
ويسيطر تنظيم "داعش" على مناطق دير حافر والباب والمحطة الحرارية المواجهة مباشرةً لمناطق سيطرة النظام السوري في ريف حلب الشرقي، والمتمثلة في مطار كويرس العسكري وصولاً إلى مدينة السفيرة ومعامل وزارة الدفاع.
ولم تشهد خطوط التماس بين الطرفين أي اشتباكات منذ تشكلها في بداية الصيف الماضي، على عكس الحال الذي شهدته خطوط التماس بين قوات النظام السوري وقوات المعارضة، وخطوط التماس بين قوات تنظيم "الدولة الإسلامية" وقوات المعارضة.
ويبدو أن قتال كتائب المعارضة السورية على هاتين الجبهتين في وقت واحد لشهور طويلة، قد أدى إلى استنزافها بشكل كبير، إذ أصبحت بالكاد تتمكن من الدفاع عن المناطق التي تسيطر عليها، في غياب أي تقدم لها منذ مطلع العام الحالي على مختلف جبهات القتال في مدينة حلب وريفها.
ولم يكن استنزاف قوات المعارضة مقتصراً على الخسائر الحربية أو البشرية والعسكرية الكبيرة التي تكبدتها أثناء معاركها ضد قوات النظام السوري من جهة وضد قوات "داعش" من جهة ثانية. وامتد هذا الاستنزاف إلى أوجه أخرى، لعل أهمها تمكن تنظيم "الدولة الإسلامية" من السيطرة على مناطق تعتبر حاضنة شعبية كبيرة لكتائب المعارضة.
وبسط التنظيم منذ أشهر سيطرته على مدن الباب ومنبج التي كانت تعد سابقاً خزاناً بشريّاً مهماً لكتائب المعارضة السورية. وكان آلاف الشبان من هاتين المدينتين قد تطوعوا في وقت سابق في العامين الماضيين للقتال في صفوف كتائب المعارضة، لتأتي سيطرة تنظيم "الدولة الإسلامية "على هاتين المدينتين لتجبرهم على ترك القتال في صفوف كتائب المعارضة أو على الهرب خارج مدنهم. وهو الأمر الذي أدى إلى حصول استنزاف كبير في صفوف قوات المعارضة.
وفي السياق نفسه، تسببت سيطرة تنظيم "الدولة الإسلامية" على المناطق التي كانت تحت سيطرة كتائب المعارضة في ريف حلب بحرمان هذه الكتائب من مساحات جغرافية واسعة، كانت تقيم عليها عشرات المقرات ومعسكرات التدريب. وكانت تستفيد من مواردها في عملية تمويل نشاطها العسكري، الأمر الذي أدى إلى استنزاف قوات المعارضة أيضاً.
وتمكّن تنظيم "الدولة الإسلامية" من الاستفادة من هذه الموارد والمعسكرات في تجنيد مئات الشبان من أبناء المناطق التي سيطر عليها باستخدام سياسة الترغيب والترهيب.
كما نجح فيما بعد في الاستفادة من هؤلاء الشبان الذين جنّدهم في عملياته العسكرية الهجومية التي يشنّها ضد القوات الكردية التي كانت تسيطر في بداية الشهر الماضي على منطقة مدينة عين العرب في ريف حلب الشرقي بالكامل، لتصبح المدينة قاب قوسين من السقوط بشكل كامل تحت سيطرة التنظيم بعد سقوط ريفها سابقاً في يده.
حصل كل ذلك في الوقت الذي كانت فيه قوات النظام السوري تحرز تقدمها التدريجي في مناطق ريف حلب الشرقي والشمالي، من دون أن تنفع محاولات كتائب المعارضة التي هدفت لصدها في إيقاف المد الكبير لقوات النظام.
وبعدما كانت قوات النظام السوري في وضع دفاعي في مدينة حلب مع بداية العام الحالي أصبحت اليوم تهدد مناطق سيطرة قوات المعارضة السورية في المدينة بفرض حصار عليها، بعد تمكنها من التقدم من منطقة السجن المركزي نحو منطقتي سيفات وحندرات لتصبح قوات النظام السوري على بعد خطوة واحدة من الوصول إلى منطقة الملاح إلى الشرق من مدينة حريتان في ريف حلب الشمالي، لتتمكن من رصد طريق حلب الكاستيلو حريتان. وهو آخر طريق تستخدمه قوات المعارضة في إمداد المناطق التي تسيطر عليها في حلب.
التعقيد الكبير الذي يميز المشهد الميداني في محافظة حلب شمالي البلاد، والتي أصبحت ساحة الصراع الكبرى بين أطراف النزاع العسكري في سورية أدى إلى تشابك وتداخل مناطق سيطرة الأطراف المتنازعة جميعاً. إلا أنّ هذا التشابك والتداخل صبّ حتى الآن في مصلحة قوات النظام السوري وقوات تنظيم "الدولة الإسلامية"، على حساب قوات المعارضة السورية المسلحة التي اضطرت إلى القتال على جبهتين في وقت واحد، الأمر الذي أدى إلى خسارتها لوضعها الميداني المريح الذي كانت تتمتع به في حلب وريفها مع مطلع العام الحالي.