سورية.. عليك السلام
عمران الحواصلي، سوري عشريني من حرستا في ريف دمشق، رأى في الثورة ومظاهراتها حلماً طالما راود خياله، تغيير واقع الحال، أفقاً جديداً، مستقبلاً واضحاً، بلاداً يعيش أهلوها بكل المحبة فيما بينهم. كان شاباً صغيراً، يكتب الشعر، ويحلم بالمسرح، ومهووساً بالموسيقى. كان يراسل عبر "سكايب"، من قلب حرستا المحاصرة، شعراء وممثلين وموسيقيين، وكان ينشط في المظاهرات وينشط في الإغاثة، اعتقل مثل غيره من شباب الثورة، ولاقى من التعذيب في المعتقل ما يكفي، وشحن بالاستفزاز الطائفي والمذهبي هناك. مع ذلك، بعد أن أفرج عنه، عاد ليواصل ما بدأه، لم يتخلَّ عن حلمه بالتغيير، ولا بالدولة المدنية المبنية على الحب. واصل كتابة الشعر، مثلما واصل الاهتمام بالمسرح. كان مؤمناً بأنه سيصبح ممثلاً مسرحياً مهماً، ما أن تنتصر الثورة.
سيدرس في معهد الفنون المسرحية، وسيقدم مسرحيات عن الثورة وعن كل شيء، وسيصدر ديوانه الأول، لم يحوله الاعتقال إلى حاقد، لم يستطع الطاغية كسر حلمه، ولم يتمكّن من هزيمة صلابته ضد الخوف الذي خلعه عن أضلاعه، منذ أول هتاف هتفه في ساحة حرستا. عاد عمران ثانية، يخبئ حلمه في قلبه، وبين يديه كان يحمل الطعام والدواء للمحاصرين في الغوطة، بدل السلاح الذي رأى فيه خطراً على حلمه، متحدياً سجل اعتقاله، ورافضاً دعوات كثر للخروج من سورية، حتى تم اعتقاله ثانية، واختفى أي خبر عنه. قبل أيام، يتم الإعلان عن استشهاده في سجون الطاغية الأسدي: شهيداً تحت التعذيب.
خالد الأسعد عالم آثار سوري، ومشرف على آثار تدمر، وحاصل على أوسمة دولية من مرتبة فارس، تقديراً لتاريخه الطويل في حماية الآثار والاشتغال بها. لم يغادر سورية، وبقي في تدمر، حتى بعد تركها بيد تنظيم داعش بموافقة الجميع. ظل متمسكاً بمدينته، كما لو كان بقاؤه فيها حماية للتاريخ القديم الجميل الذي اشتغل عليه طويلاً، ليجعله جزءاً من التراث العالمي، فلا يجوز المساس به، بيد أن همج العصر الحديث، سكان الكهوف العقلية، أعداء الحياة وأعداء الجمال وأعداء الحضارة وأعداء الزمن، أعدموا عالم الآثار بقطع رأسه في المسرح اليوناني الشهير، وعلقوا جثته على أحد أعمدة المسرح، الأعمدة التي اشتغل حياته، لتبقى منتصبة وشاهدة على عراقة الحضارة السورية وعمقها.
قبل استشهاد الحواصلي العشريني، والأسعد الثمانيني، مر استشهاد عشرات آلاف من السوريين. لن أتحدث هنا عن شهداء القصف المدنيين أو العسكريين، ولا عن شهداء المذابح. سأتحدث عن حالتين، أراهما بالغتي الأثر، شهداء التعذيب في سجون الطاغية، وشهداء داعش بقطع الرؤوس والحرق. من يتابع صور وأسماء وتفاصيل شباب سورية أولئك سيكتشف منهجية النظام في انتقاء ضحايا التعذيب: شباباً وسيمي الطلعة، جباههم عالية، معظمهم من أبناء الطبقة المتوسطة، غالبيتهم من حاملي الشهادات الجامعية والجامعية العليا، متفوقين، مبدعين، مدنيين، مسلمين يمثلون الإسلام السوري المدني. عشرات آلاف منهم تم قتلهم تحت التعذيب في معتقلات النظام السوري، مستقبل كامل، كل من كان يعول عليه لبناء سورية مدنية ديموقراطية، قتل بتشف، تحت التعذيب، ليس هذا اعتباطياً، ولا عشوائياً، ثمّة قرار واضح بقتل المستقبل الذي حلم به السوريون، وقتله بأشد الطرق إجراماً. راجعوا أسماء شهداء التعذيب في سورية وصورهم وثبوتياتهم، وستدركون ما يحدث.
في المقابل، تسلم داعش الماضي، قطع الصلة مع أي رابط بالحضارة السورية القديمة، قطع الرؤوس في الساحات العامة، اختيار الأماكن الأثرية للذبح والصلب والحرق، الرجم، الوجوه الملثمة، اختيار الضحايا، استخدام الأطفال لقطع الروؤس، منع أيٍّ من ملامح الحياة المدنية، تحطيم كل ما يرتبط بالحضارة، تهشيمه بتشفي الحاقد على الحضارة. التاريخ لهؤلاء يبدأ منهم فقط، لا تاريخ قبلهم، كما المستقبل لنظام الأسد، يقف عندهم ولا يُسمح لأحد بتخطيه، إجرام نظام الأسد يتولى المستقبل، وإجرام داعش يتولى التاريخ، سورية التي تعيش بلا حاضر الآن تاريخ ومستقبل، أو هكذا يجب أن تكون، والاثنان يتم الفتك بهما، هل ثمّة نقطة ضوء يمكنها أن تظهر من هذا كله؟ سنكون متفائلين جداً إن رأيناها.