في مقدمة كتابه "بالخلاص، يا شباب! 16 عاماً في السجون السورية" (2012)، يكتب ياسين الحاج صالح (1961) مبرراً تأخر نشر تجربته في سجون النظام، حتى بداية الثورة السورية: "طغيان اليوم سليل طغيان الأمس، نسباً وهياكل ومعنى. لكن، خلافاً لشباب التمرّد القديم، لا يبدو أن شباب التمرّد الجديد سينتظرون فوق خمسة عشر عاماً حتى ينشروا تجاربهم. يدوّنونها وينشرونها اليوم أولاً بأول".
والوصف هنا ربّما متعدٍّ على مستويين؛ إذ أنه يتجاوز تجربة التدوين القصيرة على مواقع التشبيك الاجتماعية، إلى وصف حالة النشر بعد الثورة السورية أيضاً، وهو ما يمكن سحبه على المستوى الثاني خارج قصد ياسين، إلى خارج سورية، لوصف حالة النشر العطِشة وتلهف الأكاديميا وسوق النشر الغربية، لكل ما يمكن أن يكتب حول سوريّة البلاد، والثورة، وحتى سورية المخيال التي تشبع سذاجة القارئ الغربي.
لم تكد تمر الأشهر الأولى على بداية الأحداث في البلاد، منتصف آذار/ مارس 2011، حتى أصبح للمكتبات في العالم رفوف خاصة تضم عدداً من الإصدارات الجديدة، وطبعات جديدة لإصدارات سابقة حول سورية، كما حول عدد من بلدان الانتفاضات والثورات العربية عموماً. كان الكثير منها يسوّق لنفسه بشكل من الأشكال، على أنه يقارب الواقع السوري، ويصف الأحداث الجارية ويوثقّها، أو يدّعي تحت مسميّات عديدة، رواية "النسخة الأنقى" للثورة.
وكان لافتاً أن سفيراً هولندياً سابقاً في عدد من الدول العربية؛ نيكولاس فان دام، لم يحتج سوى شهرين اثنين ليحيّن كتابه "الصراع على السلطة في سورية: السياسة والمجتمع تحت نظام الأسد وحزب البعث"، ويعيد نشره في طبعة جديدة، في أيار/ مايو 2011، ويعتبره مراجعون كثيرون باباً لتفسير الأحداث الجارية آنذاك.
كما أن رواية مثل "سرمدة" (2011)، للسوري فادي عزّام، كانت مترجمة إلى الإنكليزية وشهر أكتوبر من نفس السنة لم ينقض بعد، ونشرت عنها الـ"نيويوركر" مراجعة في كانون الأول/ ديسمبر محتفية بها على أنها من أولى الروايات التي تنشر بعد الثورة، وتشير لإرهاصاتها.
محاولات لتأريخ وتشريح الراهن
عمل عدد من المراكز البحثية، وثلة من الأكادميين، وبعض الصحافيين والناشطين الجادّين، على مواكبة الثورة السورية توثيقاً وتحليلاً، خصوصاً في سنوات الثورة الأولى المليئة بالحماس. هنا يبرز كتاب عزمي بشارة "سورية: درب الآلام نحو الحرية - محاولة في التاريخ الراهن" (2013)، الذي يوثّق وقائع سنتين كاملتين من عمر الثورة السورية، منذ منتصف آذار/ مارس 2011 وحتى الشهر نفسه من عام 2013. يستجلي الكتاب الذي يقع في 687 صفحة من القطع الكبير الأسباب الكامنة وراء حركة الاحتجاجات في سورية، ويقدّم لها بتحليل تاريخي وفلسفي يضيء الأحداث التي يوثقها. واستمراراً لنفس الجهد، صدر في نفس السنة كتاب جماعي عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" تحت عنوان "خلفيات الثورة: دراسات سورية".
ياسين الحاج صالح قدّم تحليلاً متقدماً بشكل كرونولوجي ارتأى أن يكون انتقالا من الثورة إلى الحرب في كتابه الصادر مؤخراً "الثورة المستحيلة: الثورة، الحرب الأهلية، والحرب العامة في سورية" (2017). فيما عمد "منتدى العلاقات العربية والدولية" في الدوحة إلى إصدار "ثورة المتروكين: أوراق بحثية حول تطورات الثورة السورية" (2017)، وفيه تجميع لعدد من الأوراق البحثية الجادة التي رامت مقاربة تطورات الثورة في سورية وتحولاتها خلال سنيّها الخمس الأولى، وقبلهما كتاب سلامة كيلة " الثورة السورية.. واقعها صيرورتها وآفاقها" (2013).
من جهة أخرى، قام الأكاديمي الأميركي كومينز ديفيد بإصدار الطبعة الثالثة من كتابه "قاموس سورية التاريخي" (2013)، مضيفاً إليه صفحات جديدة تعالج الثورة والأحداث التي سبقتها، وهو جهد تأريخي لا يخلو من الاختزال، والصور الضبابية في بعض الأحيان.
بالإضافة إلى كتاب "انتفاضة سورية وتقسيم الشام" (2013) للأكاديمي إميل الحكيم، والذي يهتم أساساً بالحرب وتبعاتها (خصوصاً الانقسام الطائفي) أكثر مما اهتم بالثورة نفسها. كما أن محاولات التأريخ بدت عامّة ومختزلة في كثير من الكتب الغربية، كما يبدو جليّاً في العمل الذي يعطي انطباعاً أولياً بأنه ضخم؛ "سورية: تاريخ المئة سنة الأخيرة"، وفيه يحاول جون ماكهيغو تغطية طيف زمني يمتد منذ الحرب العالمية الأولى وحتى سنة الثورة الرابعة 2015.
هذه ليست سوى نماذج قليلة وسريعة وقد تكون مخلّة، عما أنتج بحثياً عن سورية، وحاول التأريخ لها، وللأحداث التي راكمتها خلال السنوات الست السابقة. غير أنه يجب التأكيد على أن أي جهد (إن حافظ على حسن نيته البحثية) يظلّ مهماً في هذه الفترة، وقد يشكل أرضية انطلاق أوليّة لأي جهد تأريخي لاحق، بعد نهاية الأزمة، ومضي مسافة زمنية كافية للتأريخ.
الأنا الساردة
غير بعيد عن التأريخ، وفكرة التدوين، شهدت السنوات السابقة تكثّفاً لأعمال السيرة الذاتية، والسيرة في تعريفها العام والكلاسيكي، أو كتب الشهادات والتجارب وفروع اللاتخييل الذاتي التي تعشقها سوق النشر الغربية، لما تحمله من بعد عاطفي وشخصي و"حقيقي".
في هذا الباب نجد أعمالاً عربية، قليلة مقارنة بما أنتجته دور النشر في أسواق أميركا وألمانيا وبريطانيا وفرنسا على وجه الخصوص. من ذلك نذكر أعمال (بغض النظر عن موقفها وتوصيفها للأزمة) كـ"سوريا التي عرفت" (2017)، وهو حوارية بين نزار أسعد هارون ونعمان صاري.
أو إصدار "دار الساقي" مزدوج اللغة (عربي وإنكليزي)؛ "سوريا تتحدث.. الثقافة والفن من أجل الحرية" (2014)، والذي ضمّ شهادات مستقاة من فنانين ونشطاء، عملوا في فنون التجهيز والعروض البصرية والأشرطة المصورة والرسوم والملصقات التي واكبت الثورة السورية في حقبتها السلمية. فيما كتبت سمر يزبك مذكرات مبكّرة تحت عنوان " تقاطع نيران: من يوميات الانتفاضة السورية" (2012).
في الضفة الأخرى، نجد كتباً لاتخييلية غزيرة عن سورية، كتبها سوريون بالإنكليزية أو بلغات أخرى، أو كتبها صحافيون وسياسيون وناشطون غربيون، حول تجاربهم في سورية قبل وبعد الأزمة. من ذلك نجد أعمالاً من قبيل: "معركة من أجل الوطن.. مذكرات معمارية سورية" (2016) لمروة الصابوني، و" بيتي الدمشقي: الأزمة السورية من الداخل" (2016) لديانا دركي، و"صبي حلب الذي لوّن الحرب" (2014) لسمية سكر، و"بلاد محترقة: السوريون في الثورة والحرب" (2016) لروبين ياسين-كسّاب وليلى الشامي، و"البيت الذي كان بلدنا: مذكرات سورية" لـعليا مالك (2017)، وهي نماذج لكتب كتبها سوريون.
ومن كتب غير السوريين، نجد الكتاب الصادر مؤخراً "عبرنا الجسر فارتجّ بنا: أصوات من سورية" (2017) لويندي بيرلمان، و"الأوديسة الجديدة: قصة أزمة اللاجئين في أوروبا" (2017) لباتريك كينغسلاي والذي تناول الأزمة في شقها الإنساني من زاوية اللجوء، و"الصباح الذي أتوا فيه لأجلنا: برقيّات سورية" (2016) لجنين جيوفاني، و"ثار في سوريّة: شاهد عيان في الانتفاضة" (2012) لستيفن ستار، أو الكتاب المبكّر الذي نشر في أشهر الثورة الأولى "الوجه الثاني للمرآة: سفريات أميركي عبر سورية" (2011) لبروك آلن.
لا يقف هذا المسح السريع، وغير الشامل عند الأعمال الإبداعية. إذ أنها الأقل ادعاء للتمثيل، والأبعد ربّما، من حيث طبيعتها التخيلية عن تجاذبات التأريخ والتدوين المباشر وأوهام تسجيل وتوثيق "الواقع"، حتى وإن كانت الكثير من الأعمال الإبداعية السورية (أو عن سورية)، قد اشتبكت مع الثورة والحرب التي تلتها، أو السياق السياسي والاجتماعي الذي سبقها، كما فعلت ذلك أعمال من قبيل روايتي فوّاز حداد "السوريون الأعداء" (2014) و"الشاعر وجامع الهوامش" (2017)، و"لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة" (2013) لـ خالد خليفة .