سوريا.. لحظة الحسم السردي

05 ابريل 2014
"آندي وارهول في/ "المتحف السوري"، تمّام عزام
+ الخط -

لا يجد السوري سوى الكلام أداة لعلاج ما أصابه من شقاء. الكلام المتفاوت، المتقلب، المتردد في حسم مقولاته. حوادث وقصص ووقائع وتفاصيل ووجوه تسيل بين خيم النازحين في لبنان والعراق وتركيا والأردن. فتدخل الشك إلى المأساة، تجعلها مؤقتة وهشة، ضعيفة الصلابة. البيت الذي تهدم، تعيد الحكاية تشييده، عبر ردّه زمنياً إلى لحظة ما قبل الفاجعة. كذلك المدرسة تصدح بصراخ التلاميذ، الذين مات بعضهم، وغدا البعض الأخر طريح الخيم الباردة.

ما يروى على الألسنة المترددة، يتحول إلى وجود جديد ينازع القديم على مشروعيته. يتكلم النازح، لكي يضاعف حكايته، يفتحها على زمنين: "الثورة، وما قبلها". الحيوات العادية باتت مهددة: "حين اعترضتُ على الخنوع، قُتلت وشُردت ولُوحقت وسُجنت؛ دخلتُ طور المأساة". بين لحظتي الاعتراض والمأساة يقع السرد الشفوي عند السوريين.

سيدة تروي لجيرانها، في مخيم النزوح، عن القصف الذي حول الأولاد الصغار إلى جثث متفحمة. تتخفف القصة من مأسويتها، حين يجري تناقلها من خيمة إلى أخرى، الألسنة التي تلوكها مشغولة بأشياء أخرى. ما يُدخل القصة إلى إطار الكلام العادي، عن أعباء النزوح وتكاليف العيش وأحواله القاسية. ما نظنه تراجيدياً قاهراً يصبح محدود التأثير، يتداوله الناس بوصفه حديثاً عابراً، يحكونه لبعضهم البعض ويذهبون بعدها للنوم.

لكن القصة الأصلية تبقى على حالها كما روتها الأم التي فقدت أولادها، ممزوجة بكلام ساخن يلدغ عاطفياً كل من يصغي إليها. تلك الأم لا تريد للزمن أن يتدخل في حكايتها، تريدها أن تظل طرية، قابلة لإحداث الوجع وتعميمه كلما رويت. الزمن عدو السوريين يتفنن في إتلاف حكايتهم، تزويرها، تغيير بداياتها، وتبرئة المذنب فيها.

الشفهي ليس سوى نتيجة حتمية للزمن. إنه أقرب إلى السيولة الكلامية، التي تتبدل معه، وتقلّب وجوهها تبعاً لحركته. المجزرة التي قتلت الأولاد، وحولت المرأة إلى أم مفجوعة تصبح عرضة لسيناريوهات مختلفة، أغلبها ينحو، إلى التخفيف من المأساة وزجها في سياقات عادية.

العمل الشفوي يتنازع بين وظيفتين: "واحدة من أجل تثبيت حكايات المفجوعين، مع كل حمولاتها المأسوية، وأخرى من أجل تخفيف تأثير هذه الحكايات، وجعلها أقرب إلى الاعتياد". يخفي ذلك صراعاً، بين من يريد للحرب أن تنتهي، كي يعود إلى حياته السابقة، دون أي تغيير يذكر، وبين من يحلم بانتصار الثورة، وسقوط النظام الذي اندلعت ضده تلك الثورة.

ثمة اختبار في السياسة، أيضاً، ضمن ثرثرة النازحين اليومية. هو اختبار مفتوح على احتمالات شتى، تنتقي من السياسة ما يخفف من وطاة النزوح وظروفه البائسة. النازح ينظر إلى الصراع من منظور خيمته وبطون أولاده الخاوية؛ ما يجعل الشفوي السوري غير قادر على احتمال السياسة، بوصفها مفاهيم وتحليلات وحسابات دول؛ لذا يحولها إلى حكايات وقصص يجري تناقلها من خيمة إلى خيمة أخرى: "الدولة الفلانية قدمت سلاحاً. إيران هددت بالتدخل. أميركا فرضت عقوبات". تتجرد السياسة من عقلانيتها، وتصبح أقرب، إلى حكاية الأم، التي فقدت أولادها بمفعول مختلف، لا يقاس بميزان شعوري.

يعيش السوريون في مطارح نزوحهم هذا التنازع والتأرجح والتناقض، متراوحين بين تخفيف المأساة وتثبيتها. ويبدو الأمر علاجياً، بمعنى أنه يفتح الواقعة السورية على فكرة الاحتمال ويعرّضها لرياح الشك. يبدو عدم الحسم مفيداً من أجل تغيير الشروط التي استقرت عليها أحوال السوريين بين التشرد، والنزوح، والاعتقال والهجرة. الشفوي يترك للمصائر حرية الانقلاب، على نفسها، ويُملّك الدرب أدوات الانحراف عن مساراتها القدرية.

وعلى النقيض من المكتوب الذي يهوى تسجيل الوقائع وحسمها دون أي فرصة للالتفاف عليها، خصوصاً وأن المكتوب يستنجد بأدوات الكتابة التقليدية، ما يزيد من وثوقيته حيال الواقعة التي يسعى إلى إقناعنا بها. أن نصدّق ما نقرأ يبدو أمراً عارضاً، لا قيمة له قياساً بالاحتمالات التي يتيحها الشفوي، عبر خلط المشاعر وتصديع السياسة، ووضع المأساة على حافة الملل من تكرارها.

حكاية الأم التي فقدت أولادها لن تبقى على حالها، ستدخل في طور التلف والتآكل بفعل الألسنة، التي ترددها، وتعيد صوغها على هواها. وفي الوقت نفسه ستبقى على حالها، بالنسبة إلى الأم، التي تقاوم مفاعيل الزمن لتثبيت حقها في القص. لكن الحكاية ستخرج من أحوال "التلف والصمود، التنازع والتناقض"، إذا ما كتبت، فتدخل لحظة الحسم السردي، الذي يشبه الحسم العسكري.


* شاعر من سوريا 

دلالات
المساهمون