سمير أمين.. خارج سجن التطوّر اللامتكافئ

14 اغسطس 2018
(سمير أمين)
+ الخط -

ربما هي إحدى آخر المناسبات التي ظهر فيها المفكر الاقتصادي المصري سمير أمين (1931 – 2018) إعلامياً. في آذار/ مارس من العام الجاري، يقول خبر في "وكالة الأنباء السنغالية": "بيبليوغرافيا سمير أمين هدية لمكتبة شعبية في داكار".

تفصيل الخبر: قرابة الخمسين مؤلفاً، ومئات الأوراق البحثية المنشورة في مجلات علمية، وجرد لمقالاته الصادرة في الصحف ومحاضراته، بما يناهز في المحصلة قرابة 7000 عنوان كما يذكر الخبر، كانت محتوى "هدية" صاحب "نقد روح العصر" الذي رحل عن عالمنا أوّل أمس من باريس.

لم تكن داكار اختياراً اعتباطياً بحال، فهي مدينة أقام فيها أمين لسنوات، وكانت مجالاً لنشاطات تنظيرية وتنموية عدّة. لكن اختيار داكار يُضمر سؤالاً عربياً: لماذا لم تحدث نفس المبادرة في القاهرة أو تونس أو الجزائر أو بيروت، وهي مدن تردّد عليها كثيراً؟

قد لا يكون هناك أي ترتيب أو قصدية في الأمر، غير أن الموقف يحيل إلى رمزيات عدة. فالمثقفون مثل الطيور قد يجدون بيئات حاضنة وأكثر دفئاً بعيداً عن الموطن الأصلي. ومن هنا قد يتفرّع السؤال إلى غيره؛ هل وصلت أعمال أمين فعلاً إلى العالم العربي؟ هل قرئت؟ هل تحوّلت إلى فعل وديناميكية؟ هل حدث شيء من ذلك بالرغم من أن كتبه ترجمت في معظمها ووَضع بعضاً منها بالعربية مباشرة؟

لالتقاط عناصر إجابة، علينا أن نتذكّر أهم محاور مشروع المفكر الاقتصادي المصري؛ محاولة تخليص شعوب الجنوب من قدر تاريخي يجعل منها أطرافاً لمركز، أي أن تملك هذه البلاد مصيرها فلا تكون تابعة خاضعة.

واقع البلاد العربية يقول غير ذلك، فالنتائج التنموية هزيلة هنا وهناك، والسياسات لا تعبّر عن رغبة صادقة في تجاوز التبعية والقفز خارجها. بالتالي، من العسير القول إن فكر سمير أمين كان فاعلاً في بلادنا.

في فرنسا، حيث درس ودرّس وعاش معظم فصول حياته، يُعتبر صاحب كتاب "التراكم على الصعيد العالمي" أحد أبرز وجوه حركات مناهضة العولمة بل أحد محرّكاتها. مرة أخرى علينا التقاط مفارقة؛ فالبلاد العربية من بين أكثر مناطق العالم تأثراً سلبياً بالوضع العالمي، وقد أفرز فيها الكثير من الحروب والتفاوت والفساد. هل لأمين موقع في حراك كهذا؟ وهل أن هذا الحراك موجود أصلاً رغم وجود أسبابه؟ ثم ألسنا أولى بأمين من فرنسا؟ ها إنه يدفن في باريس. وبعيداً عن تفاصيل هذا الخيار، يبقى ذلك أيضاً إشارة إضافية عن القطيعة التي نتحدّث عنها.

ربما توجد أسباب موضوعية لهذا الأمر. فالعمل على تطوير أدوات الماركسية وتطويعها لقراءة الحاضر من مشاغل الفكر الفرنسي الحديث، وقبل ذلك اندمج أمين في المنظومة العامة للثقافة الفرنسية، سواء أكاديمياً أو في الحراك المدني، فهو عنصر من يسارها، ذلك المعطف الذي خرج منه مفكرون أساسيون مثل ريجيس دوبريه وآلان باديو. هل نجد أثراً لنفس الاندماج في الثقافة العربية؟ أليس في ذلك ما يشير إلى خلل في ثقافتنا، ونقصد قدرتها على حسن استقبال مثقفيها وإدماجهم فيها؟

هو في ذلك ليس استثناء، هو من بين آخرين قدّموا مساهمات فكرية أساسية في عالم اليوم وعلومه، بلغات أجنبية. وحين نذكر المصريين فقط، نشير إلى المحلل النفسي مصطفى صفوان، وعالم الاجتماع الراحل أنور عبد الملك، وعالم الجريمة عزت عبد الفتاح. هؤلاء عاشوا ويعيشون قطيعة نسبية مع الموطن الأصلي، حظهم مثل حظ أمين، لا يصل إلى الأرض العربية إلا صدى أو يكاد. أليس عرَضاً مرَضياً ألا تقدر ثقافتنا على أن تتغذى من مدوّنة أحد أبنائها؟

هنالك ضيم مضاعف مع سمير أمين. ببساطة لأنه كرّس جهوده لتكييف أدوات علم الاقتصاد لدراسة واقع العالم الثالث، بحيث يناهض - بحسب تعبير له - "الجُعبة المفهومية لنظريات الاقتصاد الشائعة". ورغم أن هذا الجهد قد وصل إلى العربية بفضل جهود مترجمين وناشرين فإن وَقعه يظل ضعيفاً للغاية.

نقرأ في سيرته أيضاً أنه شَغَل الكثير من المواقع، بالأساس مستشاراً اقتصادياً لعدد من "دول الجنوب"، وأسّس، أو ساهم في تأسيس، الكثير من الهياكل التي تُترجم رؤاه، أبرزها ربما "منتدى العالم الثالث". ولكن مرة أخرى سنجد أن حظ العالم العربي من هذا النشاط قليل.

ثمة سببان على الأقل، الأول هو قطيعة جماهيرية مع المنتج الفكري، بل إن الفكر الاقتصادي لا يجد مكاناً في الثقافة العامة العربية، وهذا مستوى آخر من معضلاتنا.

أما السبب الثاني، ولعله الأخطر، فمتعلّق بمحتوى فكره، باعتبار أن خلفية كل منجزه قولٌ بأن البلاد التابعة تعيش أزمة مستمرة بسبب تناقض أنظمتها مع مصالح شعوبها، حيث تحمي الأنظمة فئة اجتماعية مرتبطة بالرأسمالية العالمية، وبالتالي تعيد إنتاج التبعية بقوة أجهزة الدولة.

مثلاً، حين يشتغل على تفسير اللاتكافؤ، يضع إصبعه على داء نخر اقتصادات البلدان العربية حين تتلقف رغبات المركز وتحوّلها إلى سياسات، ومن هنا يمكن أن نستقرئ إعاقات تنموية في تونس ومصر حين تعطى الأولوية لقطاع السياحة على حساب الزراعة والتصنيع، وتقضي بأن تكون ليبيا مصدّراً للثروات الطبيعية ولا شيء غير ذلك.

من المنطقي إذاً أن يحارب هذا الفكر (وإن تمّ ذلك بطرق ناعمة)، أو لا تسلّط عليه الأضواء إلا في مناسبات من أجل توظيفات سياسية. لكننا في المحصلة، نقع مع سمير أمين على وجه من وجوه "التأخر" العربي؛ هذه القطيعة بين منجز المفكرين والاستفادة العامة منها.

وإذا كان مفهوم التطوّر اللامتكافئ أحد أكثر المفاهيم المنتشرة في أعماله، فإننا يمكن أن نسحبه إلى ما هو أبعد من إطاره المرجعي، في علم الاقتصاد، إلى تطوّر لامتكافئ في جني ثمرة المعرفة. كيف تتحوّل هناك إلى طاقة، وتبقى هنا جامدة خمولة، مجرّد فكرة فوقية؟ هكذا نعيش تعطّلاً في النمو الفكري، بما يوازي التعطّل الذي نعيشه في النمو الاقتصادي.

يبقى أن هناك جوانب مضيئة داخل هذا المشهد القاتم، ففي العربية، نجد اليوم - بفضل أمين - نقداً متكاملاً لتاريخ الفكر الاقتصادي. وفي أعماله أيضاً نجد تصوّراتِ مخارج لمطبّات كثيرة نسقط فيها بشكل متكرّر، وهو الذي كان يعتبر أن الخروج من التبعية ضرورة وليس فقط ردة فعل قومية، فأزمة الرأسمالية لم تعد أزمة مرحلية بل هي أشبه بسفينة يقودها ربّانها إلى الغرق، فهل من المنطقي أن نظلّ على ظهرها؟

ما يبقى أيضاً من سمير أمين أنه قدّم فكراً اقتصادياً متفائلاً، كان يعتبر أن المركز الغربي قد فقد القدرة على الفعل، وأن إمكانية إنجاز تطوّر للبشرية أصبحت ممكنة في الأطراف فحسب. ربما يكون ذلك أثقل وأجلّ ميراث تركه سمير أمين للبلاد العربية.

دلالات
المساهمون