سذاجة مبارك المهدي أم تطبيع حكومي سوداني؟

28 اغسطس 2017

مبارك الفاضل.. الحديث السوداني الأكثر وضوحا ووقاحة

+ الخط -
شغل الناس في السودان وخارجه هذه الأيام بحديث صاعق للوزير مبارك الفاضل المهدي عن ضرورة التطبيع مع إسرائيل ومصلحة السودان فيه. لم يحمل الحديث، في جوهره، جديداً عما هو سائد ومنذ فترة في أروقة حزب المؤتمر الوطني (الحاكم) وتوابعه مما يطلق عليها أهل السودان "أحزاب الفكة". لا جديد فهو الحديث نفسه الذي بدا هامساً خجولا، ثم أصبح متداولا في دوائر السلطة، بدءا من الحزب الحاكم إلى البرلمان السوداني، حيث يطرح أسئلة حائرة تحتاج إلى إجابات صريحة.
قبل الدخول في معالجة القول الفج الذي صدر عن مبارك الفاضل، لابد من الوقوف عند مدلولات الحوار وتوقيته والمنبر الذي انطلق منه. يحاط الحديث عن أهمية العلاقة السودانية مع إسرائيل عادة بمقدمات تدور حول موضوع واحد، هو رفع الحصار الأميركي عن السودان. وبات رفع الحصار المعزوفة المفضلة لدى غالب أهل السلطة، ومقترنا بذلك تزيد الجرأة لدى الحاكمين، يوما بعد آخر، في أمر العلاقة مع إسرائيل. وقد جندت الدولة لذلك ما تسمى هيئة علماء المسلمين في الخرطوم التي تزيّن للناس، وبمقتطفات من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتفاوضه مع اليهود، بغاية الوصول سريعا إلى أن التفاوض مع اليهود "أمر لا حرج فيه دينيا"، كما تروّج أجهزة الحزب الحاكم ذلك، مقترحات ودليلا على "حرية التعبير المتاحة" في السودان. واللافت أن هذا يصدر في السودان، للمرة الأولى، وفي ظل جماعة الإخوان المسلمين التي تحكم السودان منذ انقلاب 1989، ويصدر في الدولة الوحيدة التي كانت تجاهر بأنها وضعت على صفحة جواز السفر السوداني "يسمح لحامله بدخول جميع دول العالم عدا إسرائيل وجنوب أفريقيا". في وقت لاحق، سحبت جنوب أفريقيا وبقيت "عدا إسرائيل" والتي سحبت من الجواز في إصداراته الجديدة.

يلفت النظر أنه، وفي ظل دولة تقيم منظومة صارمة للرقابة القبلية على وسائل الإعلام في السودان، ما كان يسمح من الأصل بإجراء مقابلةٍ كهذه مع مبارك الفاضل، وعن التطبيع مع إسرائيل وإقامة علاقات معها، وتكال فيها اتهامات ساذجة تجاه الشعب الفلسطيني ونضاله العظيم. وحدهم الصحافيون في دوائر الحزب الحاكم، أو الإسلاميون الذين لا تطاولهم الرقابة القبلية، من يستطيع طرح مسألةٍ بهذا الحجم، وتقدّم العلاقة مع إسرائيل، وتبرّر لأهميتها بهذا الوضوح. ولهذا، قناعتي أنه لا الصحافي الذي أجرى المقابلة، ولا القناة التلفزيونية (سودانية 24) تستطيع بث حلقة كهذه قبل أن تمر على الرقابة، وتمنح الضوء الأخضر من الأجهزة الأمنية والسياسية. وبهذا المعنى، ليس في الأمر مفاجأة للحكومة والدوائر الأمنية.
ثم يأتي السؤال: ما الذي يدفع مبارك المهدي نفسه إلى هذا الحديث؟ الإجابة سهلة، الرجل على قدر كبير من السذاجة السياسية المجرّبة، وليس نسيج وحده في أروقة الحكم اليوم. وما كان بمقدوره أن يكون داخل الساحة السياسية السودانية، لولا الطائفية السياسية. وما كان يجرؤ على قوله لولا إحساسه بأنه ابن الطائفة المحمي. ويقين صاحب هذه السطور أن مبارك الفاضل ما هو إلا واجهة هشّة استغلت سذاجته، لإطلاق توجه حكومي متكامل، تعمل عليه أروقة الحكم، وبتنسيق مع دوائر أميركية – إسرائيلية، ويدور في مجمله حول رفع العقوبات الأميركية عن السودان. ولسذاجته السياسية، ابتلع وزير الاستثمار، مبارك الفاضل، الطعم ليقدّم الحديث الأكثر وضوحا، بل ووقاحة، يصدر عن مسؤول في الحكومة السودانية بشـأن العلاقة مع إسرائيل. وهذه العلاقة هي الثمن الذي يجب أن تدفعه الحكومة مقابل رفع العقوبات الأميركية المأمول عنها.
هل قدم مبارك الفاضل المهدي، في مجمل حديثه، جديدا عمّا قاله في السودان قبله أعضاء نافذون في الحزب الحاكم والبرلمان وأعضاء في هيئة علماء المسلمين؟ لا أعتقد. والجديد أن الرجل شخصية مناسبة جدا لطرح الموضوع بهذه الطريقة المباشرة والوقحة. ولا يتوقف الأمر عنده، فهو قال ما قاله. ولكن كيف تعاملت حركة حماس مع التصريح، وكيف ستكون ردة فعلها إذا ما تغاضينا عن بيانها الذي صدر عقب بث حديث مبارك الفاضل، خصوصا أنها ترتبط بعلاقة وثيقة مع حكومة الخرطوم لأسباب أيديولوجية، كما يلمح إليها مسؤولون فيها، في أحاديثهم الرسمية، خصوصا أنه ليس في تفوهات مبارك الفاضل جديد في السياق التاريخي للحكومة التي تقودها الحركة الإسلامية في السودان منذ الانقلاب في يونيو/ حزيران 1989، فهي الحركة السياسية نفسها التي أطلقت، في أيامها الأولى، سراح من جرّمتهم محاكمات عادلة ومعلنة في الثمانينات من القرن الماضي، وصدرت في حقهم أحكام بالسجن مدى الحياة بتهمة
الخيانة العظمى، ودورهم في ترحيل اليهود الفلاشا إلى إسرائيل. ولم تطلق حكومة الجبهة الإسلامية سراحهم فحسب، بل قبل أيام على حديث مبارك الفاضل، أعلنت ترقية أحدهم، وهو الرائد أبو القاسم محمد إبراهيم إلى رتبة فريق. ولهذا، لا يجب أن يقتصر توجيه إصبع اللوم للحكومة في الخرطوم وحدها، ولكن أيضا الحلفاء السياسيين من الخارج، والذين لا يزال بعضهم من الحركة الإسلامية العربية صامتا تجاه ممارسات لاأخلاقية لحكومة الخرطوم، ويتأمل فيها خيرا بما في ذلك حركة حماس.
ويمكن القول إن خطوة مبارك المهدي، أخيرًا، لا تنفصل بحالٍ عن مقدّمات مشابهة يجري ترويجها بالنهج نفسه، بمقايضة أوضاع داخلية بسباب فج تجاه الشعب الفلسطيني، ومقابل رفع حصار أو إقامة علاقة مباشرة واضحة وصريحة تمر عبر جسر الوساطة السعودية الإماراتية لدى الولايات المتحدة لرفع العقوبات عن السودان. ولهذا، وقع مبارك الفاضل في فخ السذاجة السياسية، وخدمة هذا التوجه الشامل والمتجذّر في أروقة الحكم والمسنود إقليميا. وبشكل عام، يثابر أهل الحكم على نشر ثقافة فاسدة منحطة خلال أكثر من عقدين، تستهدف تاريخا ناصعا للحركة الوطنية السودانية، عرفت فيه بمواقفها الواضحة من الكيان الصهيوني، والتأييد الثابت للقضية الفلسطينية والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني.
ولهذا، بالقدر الذي أحس فيه، كمواطن سوداني، من ألم تجاه هذه المسرحية القذرة، وما لحق الشعب الفسطيني المناضل فيها، وكذا ما لحق من رذاذ بحركة حماس، أسأل: هل ستستمر "حماس" في التزام موقفها المتأرجح، والذي تقف فيه حليفا حميما للحكم في السودان، أم أنها ستعيد حساباتها، وتلتزم طريقا شاقا ووعرا، يتنكبه شعب السودان وقواه الوطنية التي لا تزال تتمسك بلاءات الخرطوم الثلاث التاريخية.
0CD72F94-2857-4257-B30C-7F645EA599D7
طارق الشيخ

كاتب وصحفي سوداني، دكتوراة من جامعة صوفيا، نشر مقالات وموضوعات صجفية عديدة في الصحافة العربية، يعمل في صحيفة الراية القطرية، عمل سابقاً رئيس تحرير ل "الميدان" الرياضي السودانية.