سخط بومبيو على دكتاتور ترامب المُفضَّل

24 يناير 2020
+ الخط -
ربما كان يحتاج الأمر إلى تصفية مواطنٍ أميركي من أصل مصري، في السجون المصرية، لكي يُحرَجَ المسؤولون الأميركيون، ويخرجوا عن صمتهم تجاه قضية احتجازه بلا محاكمة ثم وفاته، وطبعاً من دون الالتفات إلى انتهاكات النظام المصري حقوق الإنسان بشكلٍ ممنهج منذ سنة 2013. وعلى الرغم من مرور سنوات على احتجاز مصطفى قاسم في ظروفٍ غير إنسانية، إلا أن الإدارة الأميركية لم تطلب من القاهرة إطلاق سراحه لاسترداده، كما فعلت مع مواطنها الذي كان محتجزاً لدى إيران بتهمة التجسّس. كما لم تفرض أي عقوبة على نظام السيسي، أو أحد أركان حكمه، بعد وفاة الرجل، مثلما تفعل عادة في ظروف مشابهة، وهو ما يطرح تساؤلا عن مدى دعم هذه الإدارة نظام السيسي في سياسته القمعية. 
وعلى غير العادة، لم تُدِن الدوائر العليا هذه الجريمة مباشرةً، بل تدرَّجت إدانتها بدءاً من المهتمِّين بالدفاع عن حقوق الإنسان من المواطنين الأميركيين، مروراً بأعضاء في مجلسي النواب والشيوخ إلى أن شعر وزير الخارجية مايك بومبيو بالحرج، وقرَّر مواجهة الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي بالأمر ليعرب له عن غضبه من هذا العمل الذي سيلقاه السيسي ببرودةِ من لديه الضوء الأخضر من واشنطن، ليمارس ما هو أبشع من هذه الجريمة. ولا يمكن أن تتبدَّى مباركة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، نهج السيسي القمعي بأفضل من الصورة التي ظهرت عليها، عندما نادى عليه متحبِّباً: "أين دكتاتوري المفضل؟"، حين حلَّ السيسي ضيف شرفٍ على قمة مجموعة الدول السبع في باريس، أواخر أغسطس/ آب الماضي، وهو الحادث الذي كان بمثابة شد اليد على منتهك حقوق الإنسان الذي يستحق النبذ، لا الترحيب به.
وكان مصطفى قاسم قد توفي في معتقل طرة المصري، في 13 يناير/ كانون الثاني الجاري، بعد إضرابه عن الطعام احتجاجاً على الحكم الذي وُجِّه إليه، واحتجاجاً على ظروف اعتقاله السيئة. 
وقد اعتقل قاسم في مدينة نصر، سنة 2013، بسبب حيازته جواز سفر أميركيا. وبعد خمس سنوات من الاعتقال من دون محاكمة، حُكِم عليه، في 7 سبتمبر/ أيلول 2018، بالسجن 15 سنة، على خلفية قضية فض اعتصام ميدان رابعة العدوية الذي بعيداً عنه. وكانت المحاكمة جماعيةً شملت عشرات المعتقلين الذين وُجِّهت إليهم تهمة محاولة قلب النظام. وقد توفي قاسم بعد أشهرٍ من إضرابه عن الطعام.
في اليوم التالي لوفاة قاسم، أعرب نائب وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط، ديفيد شينكر، عن حزنه لوفاته، قائلاً لصحافيين في وزارة الخارجية الأميركية: "موته في الحجز كان غير ضروري ومأسويا، وكان يمكن تجنُّبه"، لكنه لم يقل إن كان من الضروري لإدارته غض النظر عن انتهاكات حقوق الإنسان بحق مواطنيها في سجون المستبدّين الذين تدعمهم. أم أن تغاضيها يأتي انسجاماً مع سياسة الرئيس كاره حقوق الإنسان والحريات وداعم الديكتاتوريات. أما وزير الخارجية، بومبيو، فلم يغرّد بعيداً عن نائبه حين قال موجها كلامه إلى السيسي، حين التقاه على هامش قمة برلين بشأن ليبيا، في 19 يناير/ كانون الثاني الجاري: "إن وفاة قاسم المأساوية بلا معنى". لكن بومبيو دان نفسه ووزارته حين قال بعبثية قتل رجلٍ أميركي لم تطالب إدارته بإطلاق سراحه، على الرغم من نداءاتٍ كثيرةٍ وجهها لها قاسم، ووجهتها لها المنظمات الإنسانية المعنية بحقوق الإنسان، للنظر في أمره.
وكان حلول السيسي ضيفَ شرفٍ على قمة مجموعة السبع، ونداء ترامب عليه بتلك الطريقة، سلاحاً له لمواصلة سياسته بانتهاك حقوق الإنسان التي يطبِّقها للفتك بالمواطنين المصريين، وللاستمرار بإيقاف عجلة الحياة على ما يقرّره وما يراه مناسباً بالنسبة لمستقبل شعبه وطريقة عيشه. وبدلاً من أن يطرح ترامب قضية قاسم، وخصوصاً أنه كان محتجزاً من دون محاكمة، أعطى السيسي جرعة تشجيعٍ على الاستمرار بما يقوم به هذا الديكتاتور الذي حكم مصر بالقوة، منذ اعتلى عرشها سنة 2014، وقبلها بعد الانقلاب على الرئيس المنتخب، محمد مرسي، في 3 يوليو/ تموز 2013، وشروعه بسياسة المجازر بحق المصريين والقتل العمد في الطرقات والإخفاء القسري والاحتجاز من دون محاكمات. وهي سياساتٌ كانت كفيلةً بدفع واشنطن إلى غزو أي بلادٍ بتهمة ممارسة انتهاكاتٍ أقل منها، بحجة الدفاع عن حقوق الإنسان وبسط الديمقراطية.
على عكس مصر وقضية قاسم، اهتمَّ الرئيس الأميركي، وعملت إدارته جاهدةً للتواصل مع إيران التي تصنِّفها عدوا لها، من أجل إطلاق سراح المواطن الأميركي، شيوي بانغ، المحتجز لدى 
إيران منذ 2016 بعد سفره إلى طهران لإجراء بحثٍ يتعلق بأطروحة دكتوراه يُعدّها. وكلَّل إطلاق سراحه جهد عشرين شهراً أمضاها السفير الأميركي السابق لدى الأمم المتحدة، بيل ريتشاردسون، في التفاوض غير المباشر مع إيران. وشكر ترامب إيران على استجابتها، وهو لا يفعل ذلك إلا لكي يسجِّل نقطةً لصالحه في سجل المنافسة المقبلة لخوض الانتخابات الرئاسية. أما في موضوع وفاة قاسم، فإن سكوته عنه وعن انتهاكات السيسي سيجعل الرجل طيِّعاً في يده تجاه الصفقات التي تشوبها الشوائب، علاوة على ضمان طواعيته تجاه صفقة القرن التي يعمل ترامب جاهداً على تحقيقها.
قال ترامب في السيسي كلاماً كبيراً. قال "إنه والسيسي يفهمان بعضهما بعضا". وقال عنه "إنه رجلٌ قاسٍ، لكنه رجلٌ طيب أيضاً، وهو يؤدي دوراً مذهلاً في مصر". ومع أنه يتلقى الانتقادات الكثيرة بسبب دعمه السيسي، لكنه لا يُصغي لمن يطالبه بالكفّ عن دعم آلته القمعية، ولا للذين يذكِّرونه بأن القانون الأميركي يحظر دعم الحكام الذين جاءوا إلى السلطة عبر الانقلاب. ومن هنا، لا يمحو سخط بومبيو على دكتاتور ترامب المفضل ذنب سكوت إدارته عن انتهاكاته، ولكن هذا السخط ربما جاء من باب أنه "قتله كما لو كان مصرياً"، على ما قالت تلك الإيطالية الثكلى، والدة المغدور جوليو روجيني.
46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.