سباق تسلح جديد أكثر خطورة

19 اغسطس 2019

تمثيل لتمزيق المعاهدة النووية في كرنفال بألمانيا (4/3/2019/فرانس برس)

+ الخط -
جاء إعلان الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية يوم 2 أغسطس/ آب الجاري، الانسحاب من معاهدة الحدّ من الأسلحة النووية المتوسطة وقصيرة المدى؛ المعروفة إعلامياً باسم "معاهدة القوى النووية المتوسطة" (صواريخ مداها بين 500 و5500 كيلومتر)، وكان قد وقعها الرئيسان الأميركي، رونالد ريغان، والسوفييتي، ميخائيل غورباشوف، عام 1987، والتزم البلدان بموجبها بتصفية الصواريخ المتوسطة وقصيرة المدى لديهما، تصفية صواريخ "أر سي دي ـ 10"، و "بي ـ 12"، و"بي ـ 14" الباليستية، و "بي كي ـ 55" المجنحة الأرضية، و"أوتي بي ـ 22"، و"أوتي بي 23 أوكا"، السوفييتية/ الروسية، وصواريخ "بيرشينغ -1أي"، و"بيرشينغ ـ 2" الباليستية، وصواريخ "توماهوك" المجنحة الأرضية، الأميركية. قالت روسيا إنها صفّت 1846 صاروخاً من هذا النوع، بينما اكتفت الولايات المتحدة بتصفية 846 صاروخاً. 
جاء إعلان الانسحاب، ليضع العالم أمام مخاطر جمّة في ضوء الخلفيات السياسية والاستراتيجية التي حكمت الموقفين، الأميركي والروسي، فالولايات المتحدة تعتبر روسيا عدواً، وروسيا تسعى إلى الانتقام من مرحلة الإهمال والاحتقار اللذين عاملتها بهما الولايات المتحدة طوال العقود الماضية، واستعادة دورها في القرار الدولي؛ وبدء الدولتين بالتصعيد المباشر عبر الاتهامات المتبادلة بانتهاك "المعاهدة"، والتسبب بالانسحاب منها بالتالي؛ والإعلان عن مشاريع وبرامج لتطوير أجيال جديدة من الصواريخ المتوسطة وقصيرة المدى. ما جعل الجزم بعودة سباق التسلح بين الدولتين أمرا واقعيا؛ والإشارة إلى خطورته في ضوء التطور الهائل في مجال إنتاج الصواريخ لجهة دقتها وسرعتها ومداها. وقد عزّز عزوف الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية عن تجديد معاهدة ستارت الجديدة التي ينتهي العمل بها عام 2021، الهواجس والمخاوف من تبديد الأمن النووي، بانهيار قواعد ضبط التسلح النووي.
بدأ السجال بين الدولتين بشأن انتهاك "المعاهدة" بإعلان وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، أن الولايات المتحدة ناقشت انتهاك روسيا "المعاهدة" منذ 2013، نحو ثلاثين مرة، ولم تجد رداً سوى الإنكار وإجراءات مضادة، وحدّد مهلة للعودة إلى "المعاهدة" أو الانسحاب، مدتها ستون يوما، تنتهي يوم 14/2/2019، وأن واشنطن ستُضطر إلى استعادة التوازن العسكري في أوروبا بعد المهلة". وإعلان حلف شمال الأطلسي (الناتو)، في بيان له، أن "الجهود العدوانية القوية التي تبذلها روسيا لتحديث مؤسستها العسكرية تتطلب أن يعكف الغرب على زيادة قدراته الدفاعية في المنطقة". واتهامه لها بـ "انتهاك جوهر المعاهدة"، وحضّها على "العودة بلا تأخير إلى احترام كامل وقابل للتحقق منه، وحماية المعاهدة". وقول الأمين 
العام للحلف الأطلسي، ينس ستولتنبرغ، إن "لدى روسيا فرصة أخيرة للتقيّد مجدداً بالمعاهدة.. وعلينا أيضاً أن نبدأ بالاستعداد لعالم من دون معاهدة". ورد الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بأن بلاده لن تقف مكتوفة الأيدي، وسترد بالمثل على القرار الأميركي. وقد أضافت الولايات المتحدة إلى طلبها الالتزام بمضمون "المعاهدة" تدمير نظام جديد لصواريخ كروز الموجهة، صاروخ جديد متحرّك يتم إطلاقه من الأرض، لأنه يمثل انتهاكا مباشرا "للمعاهدة"، جميع صواريخ إس إس سي- 8 وقاذفاتها والمعدّات المرتبطة بها، وفق قول المبعوث الأميركي الخاص بنزع الأسلحة، روبرت وود. هذا بالإضافة إلى تحفظها على نشر منظومة صواريخ "9 أم 729" التي يتجاوز مداها سقف خمسماية كيلومتر المتفق عليه في "المعاهدة".
وقد التقى دبلوماسيون أميركيون وروس في جنيف، في منتصف يناير/ كانون الثاني الماضي، وسط ارتفاع منسوب القلق بشأن مصير "المعاهدة"، من دون إحراز تقدّم؛ وصفت مساعدة وزير الخارجية الأميركية للحد من التسلح والأمن الدولي، أندريا تومبسون، الاجتماع بـأنه "مخيِّب للآمال"، معتبرة أن "من الواضح أن روسيا لا تزال تنتهك "المعاهدة" بشكل ملموس، ولم تأت إلى الاجتماع وهي مستعدّة لتفسير الكيفية التي تنوي من خلالها العودة إلى الالتزام الكامل بها، والذي يمكن التحقق منه". كما التقى نائب وزير الخارجية الروسي، سيرغي ريابكوف، بأندريا تومبسون، يوم 31/1/2019 في بكين، وأعلن أن اللقاء "لم يسفر عن تقدّم في قضية "المعاهدة"، وحمّل واشنطن المسؤولية عن ذلك بقوله: "للأسف، ليس هناك تقدّم. موقف الجانب الأميركي حازم إلى حد كبير، ويتضمن إنذارات. قلنا للجانب الأميركي إنه يتعذر إجراء الحوار في ظروف محاولات ابتزاز روسيا".


تحولات المشهد النووي العالمي
جاءت "المعاهدة" بعد تحولات وتطورات في المشهد النووي وخلافات هددت الأمن العالمي تبعتها محاولات للتوصل إلى تسوية تلك الخلافات، خصوصا في المنظومة الاستراتيجية الهجومية، حيث عرفت الفترة من 1945 إلى 1987 المحطات التالية:
1945 الولايات المتحدة تصنع السلاح النووي. 1949 الاتحاد السوفياتي يتمكن من اللحاق بالولايات المتحدة بصنع السلاح النووي. 1952و1953 الجيشان الأميركي والسوفياتي يمتلكان السلاح النووي الحراري. 1962 أزمة الكاريبي التي كان يمكن أن تتحول إلى حربٍ نووية بين الدولتين، حيث بدأت الأزمة في 14 أكتوبر/ تشرين أول عام 1962، حين اكتشفت طائرة استطلاع أميركية صواريخ متوسطة المدى سوفياتية الصنع من طراز
"آر-12" و"آر-14" في كوبا، وفي 22 منه توجه الرئيس الأميركي، جون كينيدي، إلى الشعب، وأعلن عن هذا الاكتشاف. وفرضت الولايات المتحدة الحصار على كوبا، وناقشت احتمال قصفها قصفا مكثفا، الأمر الذي أوصل العالم إلى شفير الحرب العالمية الثالثة. وجد الجانبان أخيراً حلاً وسطاً، وافق الاتحاد السوفياتي بموجبه على سحب الصواريخ من كوبا في مقابل سحب الصواريخ جوبتر الأميركية من تركيا، فأنهيا الرعب النووي الذي عم العالم 38 يوماً. 31 أغسطس/ آب 1963 دشن الخط الساخن بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. 1963 توقيع معاهدة موسكو لحظر التجارب النووية في الجو والفضاء الكوني وتحت الماء، والتي شملت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي والمملكة المتحدة. 1968 وقع كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي مع الدول الأخرى معاهدة حظر انتشار السلاح النووي. 30 سبتمبر/ أيلول1971 وقعت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي الاتفاقية الخاصة بإجراءات الحد من خطر نشوب الحرب النووية التي نصت على تقديم بلاغات عن وقوع حوادث لها علاقة بالسلاح النووي عبر الخط الساخن. 22 يونيو/ حزيران عام 1973 وقعت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي على اتفاقية درء وقوع الحرب النووية، أكدا فيها أن هدف سياستهما هو إزالة خطر الحرب النووية واستخدام السلاح النووي. 26 مايو/أيار عام 1972 وقعت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي أولى الاتفاقيات في مجال تقليص الأسلحة الاستراتيجية، وبينها معاهدة الحد من نشر منظومات الدرع الصاروخي، استثنت حالتين يُسمح فيهما بنصب الدفاعات الصاروخية: في محيط العاصمة (واشنطن وموسكو)، وفي منطقة انتشار أنفاق منصات إطلاق الصواريخ الباليستية العابرة للقارات، بحيث لا يزيد قطر منطقة نشر الدرع الصاروخية حول الأماكن المذكورة عن 150 كيلومتراً مربعا، وألا يزيد عدد الصواريخ في كل حالة عن مائة صاروخ مضاد للصواريخ، والاتفاقية المؤقتة الخاصة بإجراءات رامية إلى الحد من الأسلحة الإستراتيجية الهجومية (سالت1). وذلك بعد مباحثات مكثفة بدأت في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1969 في هلسنكي بين الطرفين، سبقتها اتصالات سرّية أجراها رئيس الوزراء السوفياتي آنذاك، إلكسي كوسيغين، مع قيادة الولايات المتحدة، وخصوصا مع وزير الدفاع الأميركي، روبرت ماكنمارا، والاتفاق على مدة سريان مفعولها بخمس سنوات. في 1977 ونظراً لعدم إعداد اتفاقية جديدة في هذا العام، قام الجانبان بتمديد مفعول الاتفاقية حتى يونيو عام 1979. في 1979 تم التوقيع على معاهدة الحد من الأسلحة الإستراتيجية الهجومية (سالت 2)، وكان من المفترض أن يسري مفعولها
حتى عام 1985، لكن الكونغرس الأميركي رفض إبرامها، مبرّرا ذلك بذريعة التدخل العسكري السوفياتي في أفغانستان في ديسمبر/ كانون الأول عام 1979.
1986 بدأت الولايات المتحدة برنامجا واسعا لتزويد قاذفاتها بصواريخ مجنحة، وهذا يتعارض مع معاهدة الحد من الأسلحة الإستراتيجية الهجومية، وقرّرت، في ضوء سياسة الإدارة الأميركية آنذاك، والتي تبنت تطوير الأسلحة الاستراتيجية الهجومية، التخلي التام عن التزاماتها بموجب معاهدتي الحد من الأسلحة الإستراتيجية الهجومية (ستارت1و2). 31 يوليو/ تموز1991، أبرمت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي معاهدة "ستارت1"، التي قضت بخفض الأسلحة الإستراتيجية الهجومية في البلدين من عشرة آلاف إلى أقل من ستة آلاف رأس نووي؛ وإلى تحديد عدد الأسلحة التي تحملها (صواريخ عابرة للقارات، غواصات، قاذفات) بـ 1600، مدة الاتفاقية خمسة عشر عاما انتهت بتاريخ 5/12/2009. وقعها عن الولايات المتحدة الرئيس جورج بوش الأب، وعن الاتحاد السوفياتي الرئيس ميخائيل غورباتشوف، وقد بدأ العمل بمضمونها عام 1994، أي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. وأضيف إليها ملحق وُقع في لشبونة عام 1992 انضمت بموجبه كل من كازاخستان، أوكرانيا، وبيلاروسيا، التي كانت ترساناتها النووية تفوق الترسانات النووية للصين والمملكة المتحدة وفرنسا مجتمعة، إلى المعاهدة. 3 يناير/ كانون الثاني 1993 وقعت الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية على اتفاقية "ستارت 2"، أو اتفاقية س ن ف -2، وفق التسمية الروسية، قضت بخفض الولايات المتحدة عدد الرؤوس النووية الإستراتيجية لديها إلى 3500، وخفض روسيا عدد الرؤوس النووية الاستراتيجية لديها إلى ثلاثة آلاف، كما حظرت استخدام الرؤوس المتعددة للصواريخ الباليستية، وقعها عن الولايات المتحدة الرئيس جورج بوش الأب وعن روسيا الاتحادية الرئيس بوريس يلتسين، إلا أنها لم تكتسب القوة القانونية اللازمة في ضوء عدم المصادقة عليها من الكونغرس الأميركي.
24 مايو/ أيار 2002 وقعت الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية على اتفاقية للحد من القدرات الإستراتيجية الهجومية، عرفت باسم اتفاقية سورت، وقعها عن الولايات المتحدة الرئيس جورج بوش الابن وعن روسيا الاتحادية الرئيس فلاديمير بوتين، حدد بموجبها عدد الرؤوس النووية الموضوعة قيد المناوبة التي يحق لكل منهما نشرها حتى العام 2012 بـ 1700 إلى 2200 رأس لكل طرف. دخلت الاتفاقية حيز التنفيذ في يونيو/ حزيران 2003، على أن ينتهي سريانها في 31 ديسمبر/ كانون الأول 2012.
وفي 8 إبريل/ نيسان 2010 وقعت الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية اتفاقية "ستارت" الجديدة، أو ما بات يطلق عليها "ستارت 3"، وقعها عن الولايات المتحدة الرئيس باراك أوباما وعن روسيا الاتحادية الرئيس ديمتري مدفيديف لتحل محل اتفاقية ستارت 1 لعام 1991، واتفاقية الحد من القدرات الإستراتيجية الهجومية لعام 2002، وصفت بمعاهدة "تقليص وتقييد الأسلحة الإستراتيجية الهجومية بين الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية"، قضت بتقليص الجانبين أسلحتهما الاستراتيجية الهجومية وتقييدها، حتى لا تزيد كمياتها الإجمالية بعد مرور سبع سنوات من سريان مفعول المعاهدة عن 700 قطعة من الصواريخ الباليستية المنشورة العابرة للقارات، والصواريخ الباليستية المنصوبة في الغواصات والقاذفات الثقيلة، و1550 قطعة من الرؤوس القتالية، و800 قطعة من المنصات المنشورة وغير المنشورة للصواريخ الباليستية العابرة للقارات والصواريخ الباليستية المنصوبة في الغواصات والقاذفات. (بتصرف عن "اتفاقيات الحد من الأسلحة النووية بين الولايات المتحدة وروسيا"، نائلة شرف، مركز البحوث والمعلومات، سبأ نت: 26/1/2011).
سباق تسلح جديد
قاد السباق النووي المحموم بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي إلى ظهور نظريات استراتيجية لتحديد ذلك الخطر وتحييده، ومن أهمها:
1 - نظرية الردع النووي: وتعني توفر القدرة التي تُرغم الخصم على التراجع عن تصرف معين، أو إحباط الأهداف التي يتوخاها عبر إلحاق خسارة جسيمة به، ويرى بعضهم أن الهجوم الأميركي النووي على مدينتيْ هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين هو الذي منع ستالين من نقل قواته من منشوريا للمشاركة في الهجوم الأخير على اليابان.
2 - استراتيجية الاحتواء: وتعتبر أولى حلقات الإستراتيجية الأميركية في عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، وقد وضع أسسها الدبلوماسي الأميركي جورج كينان (مقالته "مصادر السلوك السوفياتي"، كتبها تحت اسم مستعار: مستر أكس ونشرها في "فورين أفيرز" عام 1948): ونفذها الرئيس الأميركي هاري ترومان، وكانت تمثل الرد على الإستراتيجية التوسعية للاتحاد 
السوفياتي بتطويقه بجدار سميك من الأحلاف والقواعد العسكرية.
3 - نظرية الرد (الانتقام) الشامل: وتُعرف بأنها العمل المتَّخذ لمواجهة أي شكل من أشكال العدوان بقدرة تدميرية هائلة، وهي الإستراتيجية التي تبنتها أميركا بداية خمسينيات القرن العشرين، إذ بلور أسسها جون فوستر دالاس.
4 - إستراتيجية الرد المرن (الاستجابة المرنة): وتعرف بأنها المقدرة على القيام برد فعل حاسم على أي تهديد أو هجوم، بما يتناسب وظروف الصراع. وقد بلور الإطار النظري لها رئيس هيئة الأركان المشتركة الأميركية، الجنرال ماكسويل تيلر، وتبنتها بلاده في ستينيات القرن الماضي.
5 - نظرية التدمير المؤكد: وضع هذه النظرية وزير الدفاع الأميركي، روبرت ماكنمارا، ومفادها بأن تعزّز أميركا مقدرتها على الرد بالضربة الثانية إلى أقصى ما تسمح به الظروف، عبر الاحتفاظ بقواتٍ تكون من الضخامة بحيث تستطيع أن تدمر كل الطاقات العسكرية والمدنية والهياكل الاجتماعية للخصم، إذا ما نشبت حرب نووية تامة بينهما. (سباق التسلح النووي في ضوء مراجعة الحالة الأميركية، فايز الدويري، الجزيرة نت: 14/2/2018).
وقد ترتب على هذه النظريات الانخراط في أبحاث وتجارب نووية، كي تحقق كل دولة من الدولتين النوويتين قصب السبق في هذه المجالات، بإنتاج صواريخ أكثر سرعة ودقة وقوة، كي تتفوق على خصمها وتفوز بالسباق.
واعتبرت تقديرات استراتيجية الانسحاب من "المعاهدة" مؤشرا قويا على عودة سباق التسلح في أنظمة الصواريخ والرؤوس النووية، وانخراط أكثر من دولة فيه في ضوء تزايد عدد الدول النووية وارتفاع حدة التنافس والصراع بينها، فما أن أعلنت الولايات المتحدة انسحابها من "المعاهدة"، حتى أعلنت روسيا الاتحادية انسحابها بعدها مباشرة، لم تكتف بالانسحاب، بل انتقلت إلى موقف تصعيدي، عبّر عنه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في كلمةٍ متلفزة، حيث أمر بتطوير فوري لصواريخ أرض ــ أرض مداها يدخل ضمن مدى "المعاهدة". وأكد، خلال لقاء جمعه بوزير الخارجية، سيرغي لافروف، ووزير الدفاع، سيرغي شويغو، "أن روسيا لن تباشر أي محادثات جديدة مع الولايات المتحدة بشأن مسألة نزع الأسلحة"، وكلف وزارتي الدفاع والخارجية، والاستخبارات الخارجية الروسية، بمراقبة خطوات الولايات المتحدة اللاحقة، بتطوير الصواريخ المتوسطة وقصيرة المدى ونشرها. وأشار خلال اجتماعه بأعضاء مجلس الأمن الروسي إلى أن بلاده، وعندما تتأكّد من أن الولايات المتحدة انتهت من تطوير وإنتاج صواريخ متوسطة وقصيرة المدى، ستضطر للبدء في تطوير صواريخ مماثلة. وأضاف: الوسائل المتوفرة لدى روسيا في الوقت الحالي، من الصواريخ الجوية من نوع "أكس 101" و "كينغال" البحرية و"كاليبر" علاوة على المنظومات الواعدة بما في ذلك الأنظمة ما فوق الصوت من نوع "تسيركون" ستؤمن الرد على التهديدات الفعلية التي ستتعرّض لها روسيا جرّاء خروج الولايات المتحدة من المعاهدة.
أخطرت الولايات المتحدة بأن لديها النية في حيازة سلاحين جديدين: جيل جديد من الصواريخ النووية ضعيفة القدرة يمكن إطلاقها من غواصة (فئة لم تلحظها معاهدة الصواريخ النووية)، ونوع جديد من صواريخ كروز ينتهك "المعاهدة". وبحسب أرقام نشرها "اتحاد العلماء المهتمين" الأميركي المناهض للسلاح النووي، "فإن حجم الترسانة النووية الأميركية ارتفع إلى 4600 سلاح نووي، منها 1740 منشورة وجاهزة للاستخدام في أي لحظة، و2922 مخزّنة. وتقوم عشر غواصات تابعة لسلاح البحرية الأميركية مجهزة بأسلحة نووية بدوريات دائمة في البحار. وتملك روسيا عدداً مساوياً من الرؤوس النووية، غير أن غواصاتها النووية في حالة سيئة، كما ظهر من عدة حوادث أصابتها في السنوات الماضية". كذلك، فإن الصين التي تبحث عن تأكيد تفوقها العسكري في آسيا، مجهّزة بصواريخ متوسطة المدى. وبحسب الخبراء، فإن 95% من الصواريخ الصينية تنتهك معاهدة الصواريخ النووية متوسطة وقصيرة المدى، وهذا دفع الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية إلى المطالبة بانضمام الصين إلى "المعاهدة" والتلويح بالانسحاب منها ما لم يحصل ذلك. كان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، ووزير دفاعه السابق، سيرغي إيفانوف، قد هددا بالانسحاب من هذه المعاهدة عام 2007، إذا لم يشمل حظر الصواريخ متوسطة المدى دولاً أخرى. ومنذ 2008، بحثت روسيا الاتحادية عن سبل للانسحاب من "المعاهدة" فطورت صاروخين يتجاوزان قيودها وضوابطها. ورفضت، عام 2014، التفاوض حول انتهاكاتها مع إدارة الرئيس الأميركي السابق، باراك أوباما، وأملت بمقايضة تراجعها عن هذه الانتهاكات بتقييد نشر منظومة الدرع الصاروخية الأميركية في أوروبا. وتوقع محللون أن تبادر روسيا الاتحادية في القريب العاجل إلى نشر صواريخ "جي إل سي إم" متوسطة المدى وصواريخ "آر إس- 26" لتوازن قدرات حلف شمال الأطلسي (الناتو) التقليدية في أوروبا.
واستخدمت الولايات المتحدة الصين ذريعة إضافية للانسحاب من "المعاهدة". مشكلة الولايات المتحدة مع الصين ذات بُعدين، أول كونها ليست طرفا في "المعاهدة"، وثان كونها نشرت صواريخها متوسطة المدى في عمق أراضيها؛ ما جعلها بعيدة عن الصواريخ الأميركية البحرية والجوية من طراز كروز المجنّحة، فالصين التي تعتبرها واشنطن خطرا داهما، تمتلك صواريخ متوسطة المدى متطورة، 2650 صاروخاً متوسطاً وقصير المدى، أغلبها غير نووية، لم تستطع الولايات المتحدة مضاهاتها بسبب قيود "المعاهدة" مع روسيا، ما جعل موقف واشنطن ضعيفا في منطقة حساسة لهيمنتها وحماية حلفائها شرق آسيا (اليابان وكوريا الجنوبية والفيليبين)، اعتبر انسحابها من "المعاهدة" والتعبير عن نيتها نشر صواريخ متوسطة المدى شرق آسيا خطوةً هدفها جر الصين إلى المشاركة في معاهدةٍ جديدةٍ تلزمها بالحد من التسلح. كانت "إستراتيجية الدفاع الوطني" الصادرة عن وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، منتصف عام 2018، قد اعتبرت بوضوح الصين "منافسا إستراتيجيا يسعى إلى تحديث قواته المسلحة لضمان سيطرته الإقليمية على المحيط الهادئ وجنوب آسيا، ومقارعة نفوذ الولايات المتحدة 
العالمي"، وهذا دفع الصين إلى معارضة الخطوة الأميركية بشدة، وإلى تحذيرها من أنها ستتخذ تدابير مضادّة، لم تحدّدها، في حال مضت الولايات المتحدة في خطط نشر صواريخ أرضية متوسطة المدى في منطقة آسيا والمحيط الهادئ.
باتت الصورة واضحة، ستنشر الولايات المتحدة صواريخها المتوسطة وقصيرة المدى بالقرب من الحدود الروسية (والصينية) في الشرق الأقصى، في اليابان وكوريا الجنوبية؛ وفي المسرح الأوروبي، يمكن أن تنشرها في خط طويل من البلطيق إلى البحر الأسود، وكذلك في النرويج، ويمكن أن ترد روسيا على ذلك بنشر صواريخها الباليستية والمجنحة، في فنزويلا وهندوراس وكوبا، وكذلك في أقصى الشرق الروسي، وفق المراقب العسكري لصحيفة نيزافيسيمايا غازيتا، وهذا سيثير قلق الأوروبيين، لأن بلادهم ستكون معرّضة لخطر نووي من جديد، وهي مضطرة لقبول نشر صواريخ أميركية على أراضيها، لأن قدرات فرنسا والمملكة المتحدة النووية غير كافية لردع روسيا الاتحادية، ويستفز الصين التي لا تجد حافزا أو إغراء للانضمام إلى معاهدة حد من التسلح في الوقت الراهن، وفق خبير شؤون التسليح العالمي ستيفن سيستانوفيتش. وهذا دفع مايكل كريبون، من مركز ستيمون للأبحاث السياسية، للقول: "نحن متجهون نحو سباق تسلح نووي جديد". وتابع، في مقالة له في مجلة فوربس: "عندما تفوق ميزانيتنا العسكرية (703 مليارات دولار) ميزانية روسيا (53 مليار دولار) بعشر مرات وميزانية الصين (207 مليارات دولار) بخمس مرات، يمكننا إذاً تحمّل سباق تسلّح"، لكن "سباقات التسلح دائما ما تنتهي بشكل سيئ: حتى عند التفوق على الآخر، يصبح الأمن ضعيفاً".