وبدا أن لا شيء يشغل موسكو هذه الأيام، باستثناء الغارات الكثيفة على المدن السورية، خصوصاً حلب، سوى فصل "المعارضة المعتدلة" عمن تصفهم "بالإرهابيين"، في حلقة مستمرة يراد لها صرف النظر عن المجازر الروسية، وصولاً إلى استسلام الحلبيين في المدينة، وإضافة العاصمة الاقتصادية إلى "سورية المفيدة"، لروسيا والنظام السوري، في وقت تبدو فيه المعارضة السورية أكثر عزماً وإدراكاً لأهمية تحرير حلب. إدراك لا ينفي أهمية التحركات السياسية في الجمعية العامة للأمم المتحدة، رغم الإقرار بخطواتها الثقيلة.
ولم يغب الطيران الروسي والنظام عن سماء الأحياء المحاصرة عقب انتهاء الهدنة الإنسانية يوم السبت الماضي. وزعم الجيش الروسي أن طائراته، وطائرات النظام السوري، لم تنفذا أي ضربة على حلب في الأيام السبعة الأخيرة، على الرغم من انتهاء الهدنة. غير أن المحاولات المتكررة للنظام السوري اقتحام أحياء عديدة في المدينة تكشف زيف حديث المتحدث العسكري الروسي، إيغور كوناشينكو، عن "وجود ستة ممرات تسمح للمدنيين بالخروج من المدينة ما زالت تعمل، وسلكها 48 طفلاً وامرأة، مساء الإثنين". وقال "تجمع فاستقم كما أمرت"، التابع لـ"الجيش السوري الحر"، إن قواته استهدفت مجموعة من قوات النظام حاولت التقدّم في حي صلاح الدين، موقعة ثلاثة قتلى، لافتاً إلى تصدي مقاتليه لمحاولة تقدّم أخرى على جبهتي الشيخ نجار شرقي حلب والعويجة شمالي حلب. وكان مقاتلو المعارضة قد نفذوا أول من أمس كميناً في صلاح الدين، قتل على إثره نحو عشرين عنصراً من قوات النظام.
بدوره، حذر الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، ينس ستولتنبرغ، في بروكسل أمس الثلاثاء، من أن مجموعة بحرية قتالية روسية متجهة إلى سورية يمكن أن تستغل في استهداف المدنيين في حلب المحاصرة، داعيا موسكو إلى تنفيذ وقف دائم لإطلاق النار. وقال "قد يتم استغلال المجموعة القتالية لزيادة قدرة روسيا على المشاركة في عمليات قتالية فوق سورية، وتنفيذ المزيد من الضربات الجوية على حلب. الخوف هو استغلال هذه المجموعة لزيادة الضربات الجوية ضد المدنيين في حلب". وقال مسؤولون في حلف شمال الأطلسي إن المجموعة القتالية التي مرت عبر القنال الإنكليزي، الجمعة الماضي، تتألف من حاملة الطائرات الروسية الوحيدة "الأميرال كوزنيتسوف" وسفينة حربية نووية وسفن حربية مضادة للغواصات وسفن أخرى للدعم، ترافقها على الأرجح غواصات. وقال دبلوماسيون إن هذا الانتشار البحري الذي يمثل مشهداً نادراً منذ سقوط الاتحاد السوفييتي، يتضمن قاذفات مقاتلة وطوافات، وإنهم يعتقدون بأنها ستنضم إلى نحو عشر سفن روسية قبالة الساحل السوري.
وتعتبر مسألة فصل المعارضة المعتدلة عن الفصائل المصنفة "إرهابية"، وعلى رأسها "جبهة فتح الشام" ("جبهة النصرة" سابقاً)، قضية شائكة، وخاصة في حلب، على الرغم من أن عددهم لا يتجاوز 900 مقاتل من أصل أكثر من 8 آلاف مقاتل، يسيطرون على الأحياء الشرقية التي يعيش داخلها أكثر من 275 ألف شخص، لأسباب أهمها أن معظم هؤلاء المقاتلين هم من أبناء حلب وقاتلوا القوات النظامية لسنوات إلى جانب باقي الفصائل، بالإضافة إلى أن هناك تداخلاً كبيراً بين مناطق سيطرة الفصائل، ومنها "فتح الشام"، في حلب المدينة أو ريفها أو إدلب وغيرها من المناطق السورية، كما أن هناك عصباً دينياً يشد من أزر المقاتلين في مختلف الفصائل لقتال النظام، ويشكل عائقاً بوجه قتال "الجبهة"، التي لا تكفّرهم أو تقاتلهم.
وعلى ما يبدو، فإن الروس يدركون هذا الواقع. وقد عبر المتحدث باسم الكرملين، ديميتري بيكسوف، في تصريح صحافي، عن شكّ بلاده في "إمكانية فصل الجماعات الإرهابية عن جماعات المعارضة المعتدلة، أصلاً"، وهو ما يثير "تساؤلات حول إمكانية إعلان تهدئة جديدة أخرى". وأشار إلى أن الجماعات المسلحة في حلب واصلت خلال جميع أيام التهدئة استهداف نقاط التفتيش والرصد، والهجوم على الطرق الرئيسية، وبينها طريق الكاستيلو، مشدداً على أن كل ذلك "لا يشجع على أي توقف أو على بدء أي عمليات تقديم للمساعدة الإنسانية".
وقد فشل الروس في إقناع أي شخص من الـ 275 ألف مدني الموجودين في حلب الشرقية بالخروج، رغم الدعاية القوية التي حاولوا أن يمارسوها، ونشر الأخبار غير الصحيحة عن خروج أعداد من المدنيين، رغم رمي الروس والنظام وإيران والمليشيات الموالية بثقلهم العسكري، محاولين التقدم في أحياء حلب والضغط على الفصائل للخروج وفرض اتفاق هدنة على الأهالي يعودون عبره إلى العيش تحت سلطة النظام، كما فعل في قدسيا والهامة ومعضمية الشام.
وأعلنت الأمم المتحدة، أول من أمس، أنها ألغت خططها لإجلاء مرضى من شرق حلب، الأمر الذي كانت تتطلع إلى إنجازه خلال التهدئة. وألقت باللوم في فشل جهودها على جميع أطراف الصراع. وقال وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية ومنسق الإغاثة في حالات الطوارئ، ستيفن أوبراين، في بيان، إن عمليات "الإجلاء أعاقتها عوامل عدة، من بينها التأخيرات في تسلم الموافقات الضرورية من السلطات المحلية في شرق حلب والظروف التي فرضتها الجماعات المسلحة غير الحكومية ورفض الحكومة السورية السماح بدخول الإمدادات الطبية والمساعدات إلى الجزء الشرقي من حلب". وأضاف "أنا غاضب من أن يكون مصير المدنيين الضعفاء - المرضى والمصابين والأطفال والمسنين - بلا رحمة في أيدي أطراف لا تزال تفشل ودون خجل في أن تسمو بهم فوق مصالح سياسية وعسكرية ضيقة".
وعلى الصعيد الدولي، يدور في مجلس الأمن، الذي عجز عن التوافق حول أي قرار يوقف القتل والدمار في سورية، مشروع القرار النيوزيلندي الذي يشير إلى أن على المشاركين في الأعمال القتالية في سورية "أن يوقفوا فوراً كافة الأعمال الهجومية التي قد تؤدي إلى قتل الناس أو جرحهم أو إلحاق أضرار بالمنشآت المدنية". كما يقترح مشروع القرار فرض هدن إنسانية دورية مدتها 48 ساعة، ويدعو فصائل المعارضة السورية والجماعات الإرهابية المدرجة في القائمة الأممية للتنظيمات الإرهابية إلى مغادرة مدينة حلب.
وفي وقت، أعلن مندوب نيوزيلندا لدى الأمم المتحدة، جيرارد فان بوخيمين، أنه من السابق لأوانه الحديث حول إمكانية إجراء تصويت على مشروع القرار هذا، وذلك بسبب وجود خلافات في المواقف حول بعض النقاط، كشف مندوب روسيا لدى الأمم المتحدة، فيتالي تشوركين، عن أن مشروع القرار الأممي بشأن سورية، الذي طرحته نيوزيلندا في مجلس الأمن، لا يتطابق مع مواقف روسيا في هذا الشأن. وأوضح أن "الآفاق (حول تبني القرار) لا تزال غامضة. وحتى لإجراء العمل اللاحق. لا يتطابق نص مشروع القرار مع مواقفنا التصورية"، ما يشير إلى احتمال أن يلحق هذا المشروع بسابقيه.
وفي سياق متصل، تتواصل اللقاءات في جنيف لبحث الوضع في حلب وتقييمه، لكن من دون وجود أفق لأن تكون منتجة، في حين كانت مجموعة من الخبراء من روسيا والولايات المتحدة والسعودية وقطر وتركيا، شاركت، الأسبوع الماضي، في مشاورات في جنيف، لبحث سبل الفصل بين الإرهابيين والمعارضة المعتدلة في حلب، وتحسين الوضع الإنساني في المدينة، واستعادة وقف إطلاق النار. ورأى رئيس وفد المفاوضات المرتبط بهيئة المفاوضات العليا، أسعد الزعبي، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "أي تحرك، إذا لم تشارك به السعودية وقطر وتركيا، لن يرى النور، بينما محاولات أوروبا وأميركا هي تمييع للقضية"، مضيفاً "نحن بصدد البحث في الجمعية العمومية، وأعتقد أنه سيكون هناك تحرك مفيد، لكن بطيء وطويل". واعتبر أن "عملية تحرير حلب لا بد منها، وأراها مناسبة ومؤثرة، ولا يؤثر عليها التقارب التركي الروسي، لان تركيا عندما تتحدث عن سحب النصرة، فهذه تصاريح إعلامية ليس أكثر". كما اعتبر نائب رئيس هيئة المفاوضات العليا، يحيى القضماني، لـ"العربي الجديد"، أن الروس "لن يستطيعوا حسم المعركة في وقت قريب، والأمور أصبحت أكثر تعقيداً، وتسارع الأحداث على المدى القريب قد يسرع الحل الذي سيفرض على الجميع، ولن يرضي أحداً، ما يدخل القضية وجميع الأطراف في حرب باردة على مدار سنوات".