يصعب عليّ أن أكتب عن صادق جلال العظم، ربما لأنه من المفكرين القلائل في الثقافة العربية، الذين أشعر بأن جيلنا يدين وسيدين لهم بالكثير.
أتذكره دائما، كلّما دار الحديث حول الثقافة السورية، إلى جانب جورج طرابيشي وسعد الله ونوس. جورج طرابيشي وكتابه الذي لم يفقد شيئاً من راهنيته: "المثقفون العرب والتراث- التحليل النفسي لعصاب جماعي''، وخصوصا القسم الثاني منه الذي ينتقد فيه مشروع حسن حنفي، و"منمنات تاريخية" لسعد الله ونوس، الذي لا يقل راهنية، وفي هذه المسرحية ينجح ونوس في رسم معالم شخصية المثقف الانتهازي وتفكيك آليات السلطة، بشكل يذكرنا بروايتين من الأدب العربي المعاصر: "مجنون الحكم" لبنسالم حميش و"الزيني بركات" لجمال الغيطاني.
أما في ما يتعلق بصادق جلال العظم، فإني أذكر بالخصوص كتابه "ذهنية التحريم"، الذي يقدّم أيضا نقداً لاذعاً لمثقف عربي يطلق الأحكام دون معرفة، وبلغة أخرى يجترّ أحكامه المسبقة. وفي هذا الكتاب ينحاز صادق جلال العظم إلى صف سلمان رشدي، ضد فتاوى القتل والتكفير، وعبره يدافع عن حرية الأدب وحرية الكلمة.
طبعاً كان بإمكاني أن أذكر كتابه "دفاعاً عن المادية والتاريخ"، ولكنه يظلّ في رأيي محاولة سقراطية وحوار يقوده السارد العليم، ويقدّم أجوبته قبل أسئلته؛ أو أن أذكر خطابه "نقد الفكر الديني"، لكنه يظلّ محاولة "فولتيرية"، لا أقل ولا أكثر. فللدين منطقه الداخلي، وللأسطورة عقلها الخاص، ولا يمكن البتّة أن ندّعي الإمساك بحقيقتها وفقا للمنطق العقلاني أو الوضعي، وقد أوضح ذلك بجلاء ميرشا إلياذة.
سيظلّ صادق جلال العظم رمزاً من رموز تلك العقلانية التي يمكن أن نسميها بعقلانية التجاوز، وهي التي استقت أفكارها ومناهجها من تراث التنوير الغربي، ولم يسمح لها الزمن، أو لربما لم تسمح لها دوغمائيتها الفكرية بإعادة النظر في أسس العقلانية الحديثة، كما فعل ممثلو "النظرية الفرنسية" أو حتى "مدرسة فرانكفورت".
لكنّ بناء ما أسميه "عقلانية التجاور" أو "الجوار"، لا يتم إلا عبر تفكيك صيرورة الدنيوة أو العقلنة، وبلغة أخرى، لن يتحقق بدون إعادة النظر بفكرة التقدّم، وبالفكر الحداثي عموماً.
إن ما سيبقى من صادق جلال العظم هو روحه النقدية غير المشروطة، ولعلنا لا نحتاج اليوم، في زمن الاستبداد والنيوليبرالية التي تشكّل الإنسان على مقاسها وتعبث بمصيره، إلى شيء آخر سوى إلى هذه الروح المتقدة، ليس لكي نجترّ أفكار صادق جلال العظم وجيله، ولكن لنفهمها في سياقها التاريخي، وعبرها، نفهم أحلام وأخطاء مرحلة بأكملها.
"إن كرامة الإنسان تكمن في الاختيار"، يقول ماكس فريش. وقد اختار صادق جلال العظم أن يقول لا لقوى الظلام والتخلّف، وأن يفضح انتهازية المثقف العربي، ويفكك أوهام الخطاب الديني، وأن يموت في المنفى وعينه على الثورة السورية.