رقدتُ باكراً تلك الليلة

16 نوفمبر 2014
خوان ميرو / إسبانيا
+ الخط -

نهاية
رأيت سيّدة عمياءَ كانت تتفحّص برأس عصاها محيطَ حاويةٍ للقمامة. لم تكن تتوقّع وجود هذا العائق، وظلّت مُتعنّتةً تريد معرفة طبيعته. بدا لي أنها كانت داخلةً في متاهة، فأخذتها من ذراعها لأقودها إلى الرصيف. كانت رائحة البارود حادّة جداً، وكنا نمشي فوق قاذوراتٍ من مختلف الأحجام. سمعتُ انفجارات متتالية كان مصدرها شارع أو شارعان نحو الأسفل. طفل كان يبكي في جهة ما. الغسق قد حلّ، والضباب كان كثيفاً كحساءٍ من خُضارٍ مهروسة.

الضريرة شرحتْ لي أنّها قد خرجت عن الرصيف لئلّا تتعثّر بالسِّقالة. نظرتُ حولي، فلم أجد أيّ سِقالة. قلت لها ذلك، ولكنّها لم تصدّقني. تفادينا أثناء مشينا سيارةً مقلوبة وثلاث سلال مهملات متناثرة على الأرض قبل أن نبلغ الرصيف. "أين هي السِّقالة؟"، أصرّت المرأة. انفجارٌ، رافقتْه ومضة ضوء، أنار الشارع. كرّرت لها أنّه لم يكن هناك أيّ سقالة تُرى على مدّ البصر. "يجب أن تكون في هذه الأنحاء"، قالت. بدأتُ أشعر بالخوف، لكنّني لم أكن أجرؤ على تركها وحيدة. تناهت إلى مسمعينا صرخاتٌ خنقها قصفٌ مُصِمٌّ. قِنّينة زجاجيّة تشظّت على بُعد ثلاثة أمتار من أقدامنا. دُستُ على جُرذٍ.

الضريرة طلبت منّي أن أستمرّ في مرافقتها. كلّ شيء أخذ يصبح أشدّ غموضاً. كنت فقط أريد أن أكون في سريري أُغطّي رأسي بالوسادة، فهي أكثر طريقةٍ للبكاء أعرفها، لا عزاء لها. قطعنا ثلاثة شوارع، ووجدت سِقالةً. أخبرتها بذلك وهمَمتُ بالرحيل. لكنّها أمسكتني من ذراعي، وبدأت تقودني كما لو أنني كنت أنا الأعمى. آنذاك، أغلقتُ عينيّ وتركت نفسي تُقاد. الصخب، الصرخات، والقمامة على الأرض جميعها اكتسبت أبعاداً أخرى. كنتُ أجهل إذا كنا في بيروت، أو في الأراضي المحتلّة في غزّة أو الضفّة الغربية، أو في ليلة رأس السنة في مدريد. وهكذا، فإنّني، منذ ذلك الحين، أمضي وعيناي مغلقتان كي لا أرى شيئاً.


رقدتُ باكراً
عيناي مفتوحتان على وسعهما أمام طبق الحساء، وأرى قبوراً. مقابلي يوجد طبق حساء آخر، طبقُ صديقي أنتونيو. لقد التقينا لتناول الغداء سويّةً. هو لا يعرف أنّني أرى قبوراً بينما نتبادل الحديث. في كلّ مرّة أرفع فيها الملعقة إلى فمي أرى قبراً داخل رأسي. ليس في رئتيَّ ولا في معدتي ولا في قدمي اليمنى: في رأسي. وكلّما كانت معدتي تمتلئ بالحساء، كان رأسي يمتلئ بالقبور. كان الحساءُ حساءَ سمكٍ، وفيه قطع من سمك أبو الشصّ ونوعين آخرين من السمك لا أميّزهما. وأيضاً قطعٌ من بلح البحر والجَمبري والمحار. صديقي يحكي لي عن عرَضٍ يُقلقه: في الصباحات عندما يصحو ويفتح عينيه، لا يستطيع خلال ثوان رؤية أيّ شيء. عندها يبقى ساكناً يعقدُ أصابعه راجياً ألا يكون قد فقد بصره أثناء الليل. بعد قليل، تعود الحقيقة إلى الظهور فجأة، ويرى الخزانة المثبّتة داخل الحائط قُبالة السرير. عيناه تتأخّران في الإقلاع مثل محرّكٍ بارد. يخشى ألا تُقلِعا يوماً. ويخاف أيضاً الذهاب إلى الطبيب. في ما عدا ذلك، بحسب ما يُضيف، فإنّ جميع الأمور تسير على ما يرام تقريباً. وبقوله "جميع" يقصد العمل (ممرّض)، والزوجة، والأطفال... أمضغُ السمك وأرى قبوراً من غرانيت، ومن رخام، ومن حديد. وأرى أيضاً أضرحةً، وقبوراً دهاليزَ في الجدران(1). كنت قد طلبت، كطبقٍ ثانٍ، قطعةَ لحمٍ من مَتن البقر، لكن الآن ليس عندي شهيّة، بسبب تلك القبور. يسألني صديقي عن رأيي حول عرَضه:

- "لا أعرف"، أقول له بصراحة، "فأنا، عندما أتناول حساء سمكٍ، أرى قبوراً داخل رأسي. والآن بالتحديد، رأسي مليءٌ بالقبور".

- "فقط عندما تتناول حساء السمك؟"

- "فقط مع الحساء. الحساء الذي كان يُعجبني كثيراً. لقد بدأت أمقته".

- "وهل تتمكن من قراءة ما كُتب على شواهدها؟"

- "نعم، لكنّها مكتوبة بلغة لا أفهمها، لغة فيها أحرف ساكنة كثيرة".

في تلك البرهة، أكتشفُ عين سمكة تطفو وسط الحساء، فتنتابني رغبة في البكاء. لكنّني أكبحها. بعد أن رجعت إلى البيت، كنت على يقينٍ بأنه، لحظةَ اكتشفتُ عين السمكة، شيءٌ بالغ الأهمية حدث بيني وبين صديقي، لم يستطع أيّ منّا تبيُّنَه. في تلك الليلة رقدتُ باكراً.


(1) Nichos: قبور ليست محفورة في الأرض، إنما هي على شكل تجاويف أفقيّة مستطيلة مغلقة، تُبنى في صفوفٍ فوق بعضها بانتظام، لتبدو كما لو أنها داخل جدارن. وهذا النمط من المقابر شائع في بعض المدن الأوربية، وخصوصاً في مدن إسبانيا.

* كاتب إسباني من مواليد 1946، والقصتان من مجموعة "مقالات قصصية"

** الترجمة عن الإسبانية: كاميران حاج محمود

المساهمون