فلسطين الشعراء تشعّ من دون أن تُسمّى

29 يوليو 2024
مجرّد اسم هذا البلد صار شعريةً في حدّ ذاته
+ الخط -
اظهر الملخص
- **الشعر كأداة إنسانية في زمن المجازر**: الشعر الفلسطيني يعبر عن الإنسانية بعيداً عن الأيديولوجيات، كما يظهر في "أنطولوجيا الشعر الفلسطيني الراهن" التي ترجمها عبد اللطيف اللعبي وجمعها ياسين عدنان.

- **تطور الشعر الفلسطيني وتحدياته**: عبد اللطيف اللعبي يوضح تطور الشعر الفلسطيني منذ القرن العشرين، مشيراً إلى دور الأجيال المتعاقبة في تشكيل الهوية الثقافية والوطنية، مع بروز الأصوات النسائية المعاصرة.

- **أصوات الشعراء وتجاربهم الشخصية**: الأنطولوجيا تضم شعراء فلسطينيين مثل رجاء غانم ومروان مخول، تعكس قصائدهم تجاربهم الشخصية ومعاناتهم اليومية، مؤكدين على قوة الشعر في التعبير عن الهوية والمقاومة.

هل من فواحش الأمور أن نتحدّث شعراً في زمن المجازر؟ بالعكس، هذه الموسيقى الإنسانية، الواجب إعادةُ تعريفها باستمرار، تظلّ أرضية مشتركة ولحظة قول جديرةً بالتقاسم. وقد تمّ تقديم دليل جديد على ذلك، بثراء وقوّة تعبير أكثر إثارة للإعجاب، لأنّه يتجاهل ويتجاوز أيّ خطاب أيديولوجي أو سياسي، من خلال "أنطولوجيا الشعر الفلسطيني الراهن" التي نُشرت قبل ارتداد المأساة من جديد (نصوص اختارها وترجمها عبد اللطيف اللعبي وجمعها ياسين عدنان، منشورات سوي، 2022).

بدايةً، قد يقول قائل إنّ عنوان هذه المجموعة، "أنطولوجيا الشعر الفلسطيني الراهن"، وحده يصطدم بما يحدث هذه الأيام بالتحديد: الشعر والمجازر مستمرّة! كلمات بين الأنقاض، ولقول ماذا؟ كلمات ضدّ القنابل، ولكن أيّ منها؟ دعاية؟ هل تُضاف الكراهية إلى الكراهية؟ أو ما هو أسوأ: كلام جميل من نخبة مثقّفة؟ بلسمٌ على الأجساد المبقورة؟ الكثير من الشكوك حتى قبل النظرة الأُولى...

ولئن تجشّمتَ عناء فتح هذا الكتاب والاستماع إلى أصواته، قد تجد نفسك، من دون تحيّز، ومن دون ارتباط بأيّ معسكر، متأثراً بحقيقة أنّه بدوره ليس خاضعاً لأيّ انحياز أيديولوجي أو سياسي. ومن دون أن تكون قارئاً للشعر، وبالاستماع فقط إلى ستّ وعشرين امرأة ورجلاً مجتمعين في هذه المجموعة، التي اختارها وترجمها الكاتب المغربي عبد اللطيف اللعبي، الذي يسلّط الضوء على "التعدّد الصوتي والأوركسترالي المذهل" من اكتشافه الخاص، ربما سيكون لديك شعور عميق بالمساهمة في تقاسُم مفيد. آه، لكن هل هذا هو الشعر؟ حسناً، هؤلاء الفلسطينيّون يشبهوننا...


إخوة وأخوات في "الجنون" نفسه

في ديباجته المبيّنة، والضرورية لنا نحن الذين لا نعرف شيئاً تقريباً عن الشعر الفلسطيني، ربما باستثناء شعر محمود درويش (دعونا نستشهد هنا بمجموعة القصائد التي لا تُنسى مِن "ضاقت بنا الأرض"، المنشورة في السلسلة المرجعية "شعر"/ غاليمار)، يُذكّر عبد اللطيف اللعبي بنشأة الشعر الفلسطيني وتطوّره، الذي يمكن القول إنّه لم يأت من عدم، لدرجة أنّ مجرّد اسم هذا البلد "صار شعريَّةً في حدّ ذاته"، وذلك بفضل الأجيال المتعاقبة من شعرائه، منذ بداية القرن العشرين، إذ بدأ الروّاد في إدراج ذاكرته الخاصّة في ذاكرة بلدان الشرق الأدنى. ومع جيل الستينيات والسبعينيات الذي تبلورت فيه عناصر الهوية الثقافية والوطنية من خلال الجمع بين "عدد كبير من الأصوات القوية والأصيلة" حول درويش، ومن خلال الانتشار الأحدث للأصوات المعاصرة، المعروفة قليلاً للأسف بما يتناسب مع التغييب الذي عانته القضية الفلسطينية، بينما الأصوات النسائية باتت تفرض نفسها من خلال كسر أكثر التابوهات رسوخاً في العقلية العربية الإسلامية المحافظة، متحدّثات بصراحة عن أجسادهن ورغباتهن وإحباطاتهن، مقدّماتٍ الجنس والشعور بالحبّ، في نسخة غير مسبوقة بالضرورة.

وفي هذا الصدد، يُوضّح اللعبي قائلاً: "الأمر المدهش هو أنّ الرجال يبدو أنّهم قبلوا هذه الأعمال الجريئة، بل طلبوا المزيد! لأنّهم بدورهم يبحثون عن أنفسهم، بعد أن هجروا هذه الحرب الداخلية ليواجهوا بشكل أفضل أشكال الهمجية التي يتعرّضون لها بشكل يومي من قِبَل الاحتلال. فالتقى الجميع على هذه الجبهة، لكن بشكل مختلف عن أسلافهم الذين كانوا، لبعض الوقت، مَثَلهم الأعلى. وذلك لأنّ القضية الفلسطينية، التي كانت تحظى بدعم واسع النطاق في ذلك الوقت في جميع أنحاء العالم، تمّ حجبُها بذكاء من قبل جالوت المحلّي، وباعتها أنظمة الإخوة العرب الزائفين، وتمّ التخلّي عنها إلى حدّ كبير من قبل ما كان يُسمّى بـ'الشارع العربي'. علاوة على ذلك، تغيّرت البيانات الاجتماعية والسياسية على الأرض بشكل جذري. ولم تعُد إمكانية إنشاء دولة فلسطينية تنتمي إلى اليوتوبيا الجميلة، بل إنّها بكلّ بساطة مستحيلة. لقد أصبح الفلسطينيون، وفقاً للصيغة المتّبعة، 'شعباً بلا أرض'، مثل الأكراد والإيغور والروهينغا وغيرهم من الشعوب المحكوم عليها بالتيه، والكفاح المستمرّ من أجل الحفاظ على هويتهم وضمان بقائهم".

الحقيقة الأكثر إثارة للدهشة في هذه المختارات هي أنّ مؤلّفيها، المنتشرين في جميع أنحاء العالم، بعيداً عن إنتاج شعر مُجزّأ أو مُنتزَع من جذوره، يمنحون في كتاباتهم الإحساس المشترك بأنّهم "يعيشون داخل كيان لم تعُد لهم حاجة إلى تسميته: الفردوس المفقود، وبلد الخيال، وأرض الشهيد، وأرض الحرب الكامنة، ومكان الموت، ومقبرة عملاقة، وقدس الأقداس، والعطور، والألوان، وجمال الحجارة، والأشجار، والأعمال البشرية... التي قلّ نظيرها. ولنا أن نُترجمها: فلسطين... ".

أخيراً، ولعل هذا هو الأمر الأكثر لفتاً للانتباه والأكثر إثارة للمشاعر، في كلّ نبرات الضيق أو الغضب، أو دفْقِ الأحاسيس أو الفكاهة السوداء: أنه حتى بدون تسمية فلسطين، وبدرجة أقل "سلطاتها"، فإنّ الشعراء الممثَّلين هنا يعكسون نوعاً من المزاج الفلسطيني، كما هو الحال غالباً مع الشعوب المضطهدة، في كتاباتهم حيث يتعلّق الأمر أساساً، وفي أغلب الأحيان بعبارات بسيطة وملموسة، بما يعيشونه: "لن نسمع سوى أفراد يروون تجاربهم الخاصّة، ومعيشتهم اليومية، في أحلام يقظتهم وكوابيسهم (وثمّة الكثير من هذه الأخيرة!).


مثل كثير من المصائر الشخصية

وتتوالى الأسماء والأعمار والأماكن التي يتحدّثون منها وانشغالاتهم المتنوّعة وما يقولونه، من رجاء غانم، الأكبر سنّاً (وُلدت عام 1974 في دمشق، وتعيش اليوم في القدس، تنشط في الصحافة وتدير ورشات للكتابة) إلى يحيى عاشور، الأصغر سنّاً (وُلد في غزة عام 1998، يكتب قصصاً لليافعين إلى جانب أشعاره)، مروراً بأربعة وعشرين صوتاً آخر، غالباً ما تكون مؤثّرة أو لاذعة أو هجائية، كلّ منها يستحضر مصيراً ويرسم آثاره بكلماته.

جان لويس كوفير
جان لويس كوفير

وهذا مروان مخول في "أبياته التي بلا منزل": "كفى! يقول الموت للطُّغاة/ لقد شبعت"، أو بعد ذلك: "في العاصفة/ وعلى متن القارب/ وسط العاصفة/ نضرب الأمواج بالمجاديف/ كي تهدأ"، أو أيضاً: "لكي أكتب شعراً ليس سياسيّاً/ يجب أن أصغي إلى العصافير/ ولكي أسمع العصافير/ يجب أن تخرس الطائرة". وهذه رجاء غانم في "ضوئها الخافت": "امرأة مسكونة بالحُبّ كنتُ/ امرأة مشت بقدميها العاريتين/ فوق خرائط لا تعترف بمعجزة/ وتخاف أن ترجع إلى القبيلة/ هناك حيث تلمع عيون الرجال/ بثأر/ وتنتظرها/ أربعون جلدة".

هل يحتاج الشعر إلى أن يُجْلَدَ ليبرز؟ هل هو إظهار جمالية آلامِيّة مشكوك فيها حين يتمّ الاعتراف بـ"الفضيلة" الإبداعية للمحنة، أو هنا للضيق المشترك، أحياناً إلى حدّ اليأس، الذي يكشف بشكل أفضل جمال "أشياء الحياة" البسيطة وثمنها؟ ما هو مؤكّد هو أنّه، أكثر بكثير من "الخطاب" الأيديولوجي أو السياسي المفيد من الدرجة الأُولى، فإنّ الخطاب الشعري، الذي يدور على حافَة العاطفة أو الأعصاب، والذي يأتي من الأحشاء أو القلب، يأتي من لغة مشتركة سنعثر هنا على ومضاته وأصدائه. لكنّ الأمرَ متروك لكلّ فرد، إذن، لإعطاء الصدى لهذه الومضات.


شظايا وأصداؤها

وهنا صيحات جمانة مصطفى، مواليد 1977 وتعيش حالياً في الأردن: أبيع المخالب للعابرات/ على قارعة الطريق/ أفرشها/ أبردها/ ألمّعها/ وأنادي"، أو: "فمن كان فيها نصف وجعي/ فلتقل ها أنا ذي". وهناك ثورات نجوان درويش، مواليد 1978 والموزّع بين القدس وحيفا: كيف ننفق أعمارنا في المستعمرة؟/ كلّ ما ألمحه حولي 'بلوكات' من الإسمنت/ وغربان عطشانة"، أو مرّةً أُخرى: "حاولت مرة أن أجلس/ على واحد من مقاعد الأمل الشاغرة/ لكن كلمة Reserved/ كانت تُقعي هناك كالضبع". وهناك صيحات كوليت أبو حسين، مواليد 1980 ومقيمة في الأردن: "قالت الجارة الطيّبة: صغيرةً تبدو على الموت!"، وتابعت: "قلبي مقبرة جماعيّةٌ، أيّها الأحبّة"، أو أيضاً: "نحن سلالة القاتل/ عمومة القتيل/ ورثة الذّنْب/ وتلامذة الغربان/ في الأرض الخراب"، وشظايا أشرف فياض، المولود عام 1980، المحكوم عليه بالإعدام في السعودية بسبب نصوص اعتُبرت تجديفية - تمّ تخفيف الحكم إلى السجن ثماني سنوات بعد حملة تضامن دولية: "أن تكون بلا وطن/ يعني بالضرورة أن تكون فلسطينيّاً/ أن تكون فلسطينيّاً/ لا يعني إلّا أن يكون العالمُ كلُّه وطنك/ لكن العالم لا يستوعب هذه الحقيقة"...

شظايا كثيرة تتصادى مع كلمات الكبير محمود درويش في "تضيق بنا الأرض": "على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة: تردُّدُ إبريل، رائحة الخبزِ في الفجر، آراء امرأة في الرّجال، كتابات أسخيليوس، أوّل الحبّ، عشب على حجرٍ، أمهاتٌ تقفن على خيط نايِ، وخوف الغزاة من الذكرياتْ". وأخيراً يتمّ النطق بالاسم: "على هذه الأرض ما يستحقّ الحياةْ: على هذه الأرض سيدّةُ الأرض، أمّ البدايات، أمّ النهايات. كانت تسمّى فلسطين. صارتْ تسمّى فلسطين. سيّدتي: أستحقّ، لأنّك سيدتي... أستحقّ الحياة".


* Jean-Louis Kuffer كاتب وصحافي من سويسرا

** ترجمة: محمد خماسي
 

 

المساهمون