رفّان من هواء خفيف
أومأت العجوز بأن أتبعها وفعلتُ. كانت غرفتها جحيماً صغيراً، فقد طلبتْ من عاملات الفندق ألا يدخلن لتنظيف الغرفة. قالت: اسمع.. غداً أو بعد غد سيكون يومي الأخير في هذا الفندق اللعين، أنفقت كل مالي لقاء هذه الغرفة لمدة ثلاثة أشهر وليس من مكان لأذهب إليه سوى القبر. لكني لا أريد أن أموت. هل تفهم لا أريد أن أمووووت. أما لماذا أنت دون غيرك فتلك مسألة تخصني فواحدة من تسلياتي القليلة منذ نزلت هذا الفندق هي مراقبة النزلاء.
أما لماذا لم يخطر لي أنها تريد أن تطلب مالاً مني ولم تثر شكوكي أنا الذي أنزل هنا على نفقة منظمي مهرجان أدبي، فربما بسبب علائم الضعف والعجز البادية عليها. أكملتْ: اخترتك أنت ﻷنّ لي معرفة بالبشر وموهبة في قراءتهم. أنت لست شخصا مثلهم (بدأ فضولي يتعاظم ممزوجاً بحماسة وترقّب وبعض خشية وربما بغبطة غامضة خفيفة بعد أن أطرت علي).
اسمعْ، هناك رفّان في رأسي واحدٌ عليه كتبٌ ألّفها غيري، والرف الثاني عليه مخطوطات كتبتها أنا على مدى عقود. أريدك أن تساعدني في إفراغ هذين الرفين، فكما ترى أنا عجوز ضعيفة.
قلت لها: ما رأيك أن ننزل بهو الفندق، يسعدني أن أدعوك إلى كأس من النبيذ.
في الحقيقة أربكني أن أكون وحدي مع امرأة عجوز وربما مجنونة، في غرفة واحدة. قالت لديّ رهاب من المصاعد الكهربائية ومع هذا عليّ أن آخذه من وقت إلى آخر. قلت أفهم، أعرف أشخاصاً لا يحبون استخدام المصعد.
انتبهت، بل شممت رائحة النبيذ تفوح منها من دون أن يبدو عليها السكر. وهي ترتشف وترتجف. لم تسرد قصصاً، قالت أفكارا وخلاصات غريبة ومثيرة. ليتني أستطيع تذكّرها. لا ريب أني كنت منوّماً ومفتوناً بسحر العجوز وغموضها. بعد الكأس الثاني حاولت أن أسألها عن كل شيء في حياتها، لكنها تجاهلت أسئلتي وأكملت وكأنها تقرأ من مخطوطات الرف الثاني في رأسها، بقصد ومن دون قصد كانت تتجنب ما يمكن لأي أحد أن يتذكر. لغة غزيرة وممعنة في التجريد، لغة تخترع جسوراً وممرات وبرازخ ولا تصل إلى طرف أو ضفة. ثم فجأة توقفت وقالت انظر إلى قدمي إنهما متورمتان، لقد التهمني مرض السكري. ساعدني اﻵن لأصل الغرفة. فعلتُ.
تصبحين على خير، أراك غدا.
لم أستطع النوم، على الرغم من أنه كان عليّ أن أكون حاضرا لقراءة في مدينة مجاورة، حسب برنامج المهرجان. هناك كم كنت أود لو أقرأ ما سمعته أمس من المرأة العجوز. ببرود قرأت نصوصي البليدة. وعندما عدت، أول شيء فعلته أني اتجهت إلى غرفتها. طرقت مرّات ومرّات، لم يفتح لي أحد. هرعت إلى مكتب الاستعلامات، سألت عن العجوز التي كانت في الغرفة رقم 111. أخبروني أنها غادرت.
■ ■ ■
لمبة
العجوز على الشرفة يذوب رويداً رويداً في كرسيّه الهزاز، يتذكر أشياء كثيرة، والأهم أنه يجب أن يغيّر لمبة الحمّام المحروقة منذ أسبوع، فاليوم مساء سيصل ابنه.
يتجه إلى الحمّام، يضع كرسياً، يقف عليه، يتزحلق، يسقط، يتهشم رأسه على طرف المغسلة. يموت.
مساء. يصل الابن، وكي يحمل جثة أبيه خارجاً، كان من الضروري أن يغيّر اللمبة.
* شاعر سوري مقيم في نيويورك