رحل جاري الذي يزورني

02 سبتمبر 2019
+ الخط -
قبل أيام، تعطلت بطارية سيارتي لثلاث مرات في ثلاثة أيام متتالية، وكلما فحصتها يقولون لي: البطارية جيدة، وأنا مصر على أنها غير جيدة، الميترينو "السويتشر" يدور، الدينامو يشحن. إذا هي "باتاريا".

آخر من فحصها قال إن المشكلة بالبطارية، وفعلاً حين أردنا تشغيل السيارة لم تستجب بسبب البطارية، ما أدى لإحضار شاحن، ذهبت لمحل "أوتوزون" المقابل، لأفحص وأشتري بطارية جديدة، فحص الشاب البطارية وقرر أنها بألف خير. هممت لتشغيل السيارة فإذا بها ليست بخير أبدا، هنا اقتنع الشاب ولم يمانع استبدالها، ونصحني بالشراء من سلسلة "وولمارت" كونها أرخص!

شحن البطارية وقال لي اذهب واشتريها! "والفارق يصل لسبعين دولارا". وولمارت سلسلة أسواق كبيرة متوفرة في كل حي وبها كل شيء، إلا أن قطع الغيار وتغيير الزيوت وغيرها من خدمات السيارات البسيطة، تفتح أبوابها من الصباح حتى الخامسة عصرا، لكن يبيعونك البطارية ويأخذوا منك رهنا بسيطا كي تعيد القديمة لهم، حفاظاً على البيئة وخوفاً على الناس والجماد من "الأشيدو" أو "مية النار"، حمض الكبريتيك الخطر.

عامل الأوتوزون لم يتركني حتى سهل فك البراغي "الدادوات" في أعلى "الباتريا"، لكنه نسي ما يثبتها في القاعدة. حاولت تركيبها، فلم أتمكن لنقص العدة، كنت أحتاج مفتاح 12 وقد أضعته.


اليوم التالي، تركنا السيارة وفي العصر ذهبت لمايكل، وأخبرته بأني أريد المفك 12، ومعظم الأميركيين يحبون البيت بـ"جاراجين" مملوءين بمعدات التصليح ولوازم صيانة البيوت. أعطاني دستة مفاتيح ومفكاً. حاولت لكن المسافة ضيقة، فسقط المفتاح إلى قاعدة السيارة.

ذهبت له محرجا، لطلب مغناطيس، ووصلة مفك بطول البطارية، فحضر معي، تفحص، ثم عاد وهو يعرج ليحضر مغناطيساً ووصلة، أصر رغم ضخامة جثته أن يتفقد السيارة من الأسفل، كان يدق حتى سمع صوت المفتاح ثم رآه، فأدخل المغناطيس وسحبه، واستعمله لفكّ "الدادو"، أعطانيه في يدي ثم رفعنا البطارية بمقبضين. المهم ركبت البطارية وهي فقط تحتاج لقفلها وتثبيتها بالمسمار.

الثامنة من صباح اليوم، قابلَنَا جارنا العجوز، مايكل. يبدو أنه استيقظ مبكراً جداً للإعداد لشيء ما، حين شاهدنا قدم إلينا صافحنا في السيارة وأعطى المسمار لزوجتي، وقال ممازحا: "لا تعطيه له، سيضيعه". قال إن رحلته ستبدأ اليوم، جهز سيارته الأميركية الكبيرة "نص نقل دبل كابينة"، وضع موتو سيكل وغيتارته، لكن عندما نظرت إليه بدا لي غير مرتاح البتة، لأول مرة يمشي للوراء وينظر إلينا ملوحا بيديه ثم يقول: "وداعا".

بعيد ساعة، طرقت ابنتي البيت المغلق بقوة وقالت لي منهارة، مات مايكل! صدمت وتوقعت أنه مات في حادثة سير، وخرجت لبيته، وكان مظلماً فوجدت صديقة طفولة ابنته سارة جالسة. سألتها عن سارة وزوج سارة، فأرشدتني إلى بيت الجيران حيث كانت زوجتي، ركضت سارة نحوي وبكت في حضني، كان الموقف مؤثراً والمشهد مهيبا، من هيبة الموت وبكى كل الجيران.

أخبرتني زوجتي أنها فعلت نفس الشيء معها، إذ ركضت نحوها وهي تصرخ ثم عانقتها.. قالت سارة إن أبي يحبكما كثيراً، ربما أكثر مني، لذا كنتم أول من بحثت عنه ليواسيني.

الرحلة

قبل أقل من أسبوعين وكعادة مايكل الذي يناهز الثمانين، زارنا وشرب الشاي الأخضر الذي يحبه، أخبرني عن رحلته للشمال حتى ولاية الآسكا المتاخمة لكندا. حكى لي عن تفاصيل الرحلة مع مجموعة من أصدقائه، في عدة سيارات، أولا إلى نيوجرسي مروراً بولايات جورجيا، ساوث ونورث كارولاينا، فرجينيا ويزور واشنطن، وماريلاند وصولاً إلى نيوجرسي، حيث كان المخطط أن يقيموا أسبوعاً هناك، هو ينزل ضيافة ابنة خالة أرملته، والبقية لا أدري.

ثم يتجهون غرباً عبر ميرلاند وفرجينيا وفرجينيا الغربية وأوهايو وإينديانا وصولا لإلينوي حيث يقيمون أسبوعاً في شيكاغو يستمتعون بـ"الموتور سايكلس"، وقيادتها، ثم يصعدوا للولايات المحاذية لكندا، ويمرون عبرها، وهي خمس ولايات، لا يتوقفون إلا في سياتل بولاية واشنطن أقصى الغرب. ثم بعد أسبوع يذهبون لآلاسكا ليقضوا عشرة أيام.. قلت له إن الطقس بارد في أكتوبر، فرد: "هذا هو الطقس المثالي".

ذهب مايكل، ولا أدري أي صدفة جمعتنا، في الصباح، وآخر ما سمعناه كلماته، ونباح كلبته، ومحاولته العزف على أوتار قيثارته الذي لم يكن في الأساس عزفاً.

كلبة مايكل الوفية

منذ عام ونيف جاءني، قبل أن تسكن معه ابنته الوحيدة، وزوجها الذي لا نراه إلا في نهاية الأسبوع، فهو يخرج من "النجمة" ويعود في "النجمة" من بلدته التي يعمل فيها "شيفا"، انتقلوا قبل أشهر فقط. احتسى الشاي ودارت الكلبة، التي لا نعرف اسمها، لم يخبرنا به في أول لقاء ولم نسأل عنه لاحقا، ربما اعتقد أننا نعرفها. الكلبة ماتت مع صاحبها، القيثارة والموتوسيكل والسيارة، التي يهتم بها كثيراً، وتعجبه، كلها دمرت.

خرجا من عندي عند المغرب، فهو يعرف أني أصلي في هذا الوقت، بعد دقائق، سمعت صوت خربشة على الباب الرئيس، فتحته لأجد كلبة مايكل، التي دخلت دون استئذان، مهرولة تتفحص البيت ثم خرجت، ووقفت عند الباب تنظر إلي. شعرت أنها تريد أن أخرج معها، ربما مايكل مريض أو وقع له شيء ما، ذهبت وطرقت باب البيت، وناديت عليه، لم يخرج، كانت الكلبة قلقة جدا، كانت تركض جيئة وذهابا، ثم تعود فذهبت لنهاية الشارع، لأراه من بعيد راجعاً، بمجرد ما لمحته الكلبة أسرعت إليه، ثم مشت معه بهدوء نحوي.

أخبرته أنها كانت قلقة عليه، فوجدته هو الآخر قلقا، مثل القلق الذي قرأته اليوم في عينيه، والارتباك. أخبرني أن كلا منهما أضاع الآخر فذهب يبحث عنه. كان وقتها سعيداً بعد عودة الكلبة، عكس هذا الصباح الذي رأيت متوترا على غير عادته!

آخر عمل لمايكل أنه أبرأ ذمته من "مسمار" لا يساوي دولار وأدى الأمانة لصاحبها.. وداعا مايكل!
دلالات
8E38CF27-B10A-4916-A022-177616221C42
أحمد يوسف علي
مختص في نظم المعلومات ومحاضر جامعي سابق.