ثلاثة أشهر ونصف الشهر، كانت جحيماً بالنسبة إلى ماهر. تنقّل فيها من سجن سوريّ إلى آخر، وتعرّض للتعذيب. لكنه على يقين بأنه كان أوفر حظاً من كثيرين ماتوا خلال التحقيق.
لم يكن يعلم أن زيارته لمدينة حمص السورية ستكلفه بعداً عن عائلته وأهله لمدة ثلاثة أشهر ونصف الشهر، ولم يكن يعلم أنه قد يكون مطلوباً من قبل الأمن العسكري السوري، علماً أنه كان على الدوام يزور منطقة حمص ويذهب إليها عن طريق مدينة طرابلس اللبنانية. ويروي ماهر (50 عاماً) رحلة عذابه...
كنت دائماً على ثقة بأنني لست مطلوباً من أي جهة أمنية في سورية، لأنني لست تابعاً لأي طرف سياسي ولا أتعاطى السياسة ولا أحبّذها. أنا إنسان محايد من فلسطينيّي لبنان، ولدت هنا عام 1965، وعشت في مخيّم الميّة وميّة في صيدا (الجنوب). كذلك أعمل متعهداً للبناء، وعمّالي سوريون. وصلت إلى الحدود السورية بعد اجتياز الحدود اللبنانية والأمن العام اللبناني. وما إن ختم الأمن العام السوري جواز سفري، حتى أعلمت بأنني مطلوب من الأمن العسكري السوري. واعتقلني. وبدأت منذ تلك اللحظة رحلة المعاناة والتعذيب التي لم أرَ شبيهاً لها. أخذوا أوراقي الثبوتية والمال الذي في حوزتي وكذلك هاتفي النقال، وجعلوني أبصم على أوراق عديدة لا أعرف ما هي. بعدها، سلّموني إلى الجهة الأمنية المعنيّة، وقد قيّدوا يدَي وغطوا وجهي وأدخلوني إلى مكان عرفت لاحقاً أنهم يطلقون عليه "المهجع". رموني فيه، بعدما جعلوني أخلع ملابسي كلها. بتّ ليلتي فيه. وبعد ظهر اليوم التالي، ساقوني مقيّداً ومعصوب العينَين أمام محقّق. سألني عن اسمي وكنيتي وعملي. بعدها، سألوني إن كنت أعرف شيئاً عن عامل سوري من حمص كان يعمل عندي، كنيته أبو موسى. هنا شعرت بأن الدنيا غدرت بي. أكثر أبناء ضيعة المذكور، اعتقلوا إذ إنهم من أتباع الشيخ الموقوف أحمد الأسير في لبنان. أجبتهم بأنه كان من بين عمالي قبل عامَين، وبأنني لم أعد أراه مذ ترك العمل وعاد إلى سورية بعد وفاة أخيه في الرقة.
حينها سألني المحقق إن كنت من أتباع أحمد الأسير في لبنان، وهل شاركت معه في تظاهرات ضد النظام السوري. أجبت أنني لست كذلك، وأن لا علاقة لي به لا من قريب ولا من بعيد. بعد ذلك، لم أعد أدري من أين تأتيني اللكمات على وجهي، وبدأ الدم يسيل منّي وأغمي عليّ. أيقظوني وتركوني أرتاح خمس ساعات قبل أن يعيدونني إلى التحقيق من جديد. كانت الأسئلة هي ذاتها والتهم تزداد، من تعامل مع المسلحين وتهريب سلاح وتظاهر في صيدا. وبقيت أنكر.
من ثمّ سألني عن عدد أولادي، فأجبته ثلاث بنات. قال لي: "جنيتَ عليهنّ. إذا لم تعترف، سوف تموت". وأنا كنت شهدت بأم العين مقتل أربعة أشخاص. وعندما لم أعترف، أخذوني إلى المهجع من جديد وأوقفوني على كرسي. ربطوا يدَي بشيء لا أعرف ما هو، وسحبوا الكرسي من تحتي. شعرت بأن كتفَي خُلعتا من جسدي. على مدى عشرين يوماً، لم أحسّ بهما. واستمرّ التحقيق معي حتى ساعة متأخرة من الليل وأحياناً حتى طلوع الفجر، إلى أن اعترفت بأنني شاركت بتظاهرتين، خوفاً من الموت تحت التعذيب. وأنا كنت كلّما أنكرت، يأمر المحقق من يعذبني: "خذوه واسلخوه". بعد الاعتراف، أخذوني ورموني في غرفة لا تتسع لشخص واحد مع سبعة أشخاص آخرين مجرّدين من ملابسهم كلها. بعدها نقلوني إلى غرفة صغيرة، رحنا ننام فيها جلوساً. كنا سبعين رجلاً.
بعد التعذيب الذي تعرّضت له في الأمن العسكري في حمص، نقلوني إلى فرع آخر. هناك، أمضيت عشرة أيام، تعرّضت خلالها أيضاً للضرب والتعذيب خلال التحقيق. بعدها نقلوني إلى سجن فرع فلسطين في دمشق حيث الويلات. في رحلتنا تلك، تعرّضنا إلى قصف من قبل المسلحين. الطريق كان مستهدفاً. وعندما وصلنا إلى فرع فلسطين، رميت مكبّل اليدَين مع خمسة أشخاص كانت تهمتهم مساندة المسلحين، على الأرض. كنا على بطوننا عندما راحوا يضربوننا على أقدامنا حتى بتنا لا نشعر بها. بعدها، جرّدوني من ملابسي وأدخلوني مع ستة أشخاص، إلى زنزانة انفرادية. ورحنا نتعرّض لشتى أنواع التعذيب النفسي، قبل الجسدي. يومياً، شتائم وكلام نابٍ وتهديد بالموت. لطالما قيل إن الداخل إلى هذا الفرع مفقود والخارج مولود. كنا نأكل فقط لنعيش، في حين كنا مجرّدين فيه من إنسانيتنا، ومن ملابسنا - كانت بحوزتهم - فيما كانت أحذيتنا وسائدنا.
في يوم، نادوني ورموا لي ملابسي. ارتديتها وذهبت إلى المحقق. أمرني بأن أغطي عينَي، وأن أركع "على الأرض كالكلاب". سألني: "هل تعترف بأنك تظاهرت مع الأسير؟" فأجبت بنعم. وبعدما أنهى استجوابي، أمرني بالعودة إلى المنفردة. شكرت ربي على أن تهمتي رست على التظاهرات، وإلا فالموت مصيري.
بعد أسابيع، نقلت إلى سجن القابون بملابسي الداخلية، ومنه إلى سجن عدرا. هو سجن مدني لم أتعرّض فيه للضرب والإهانات، وبإمكان نزلائه الاتصال بذويهم وتلقّي الزيارات. لكن الاتصال كان محصوراً بالداخل السوري، فهاتفت أقارب لي في حمص ليطمئنوا عائلتي عني ويؤمنوا لي الملابس والمال لأشتري الطعام. وبعد ثلاثة أسابيع، نقلت إلى دائرة الهجرة والجوازات حيث بقيت أسبوعَين لأنني فلسطيني، قبل العودة إلى لبنان.
إقرأ أيضاً: يوم قطعوا رجليّ بالمنشار
لم يكن يعلم أن زيارته لمدينة حمص السورية ستكلفه بعداً عن عائلته وأهله لمدة ثلاثة أشهر ونصف الشهر، ولم يكن يعلم أنه قد يكون مطلوباً من قبل الأمن العسكري السوري، علماً أنه كان على الدوام يزور منطقة حمص ويذهب إليها عن طريق مدينة طرابلس اللبنانية. ويروي ماهر (50 عاماً) رحلة عذابه...
كنت دائماً على ثقة بأنني لست مطلوباً من أي جهة أمنية في سورية، لأنني لست تابعاً لأي طرف سياسي ولا أتعاطى السياسة ولا أحبّذها. أنا إنسان محايد من فلسطينيّي لبنان، ولدت هنا عام 1965، وعشت في مخيّم الميّة وميّة في صيدا (الجنوب). كذلك أعمل متعهداً للبناء، وعمّالي سوريون. وصلت إلى الحدود السورية بعد اجتياز الحدود اللبنانية والأمن العام اللبناني. وما إن ختم الأمن العام السوري جواز سفري، حتى أعلمت بأنني مطلوب من الأمن العسكري السوري. واعتقلني. وبدأت منذ تلك اللحظة رحلة المعاناة والتعذيب التي لم أرَ شبيهاً لها. أخذوا أوراقي الثبوتية والمال الذي في حوزتي وكذلك هاتفي النقال، وجعلوني أبصم على أوراق عديدة لا أعرف ما هي. بعدها، سلّموني إلى الجهة الأمنية المعنيّة، وقد قيّدوا يدَي وغطوا وجهي وأدخلوني إلى مكان عرفت لاحقاً أنهم يطلقون عليه "المهجع". رموني فيه، بعدما جعلوني أخلع ملابسي كلها. بتّ ليلتي فيه. وبعد ظهر اليوم التالي، ساقوني مقيّداً ومعصوب العينَين أمام محقّق. سألني عن اسمي وكنيتي وعملي. بعدها، سألوني إن كنت أعرف شيئاً عن عامل سوري من حمص كان يعمل عندي، كنيته أبو موسى. هنا شعرت بأن الدنيا غدرت بي. أكثر أبناء ضيعة المذكور، اعتقلوا إذ إنهم من أتباع الشيخ الموقوف أحمد الأسير في لبنان. أجبتهم بأنه كان من بين عمالي قبل عامَين، وبأنني لم أعد أراه مذ ترك العمل وعاد إلى سورية بعد وفاة أخيه في الرقة.
حينها سألني المحقق إن كنت من أتباع أحمد الأسير في لبنان، وهل شاركت معه في تظاهرات ضد النظام السوري. أجبت أنني لست كذلك، وأن لا علاقة لي به لا من قريب ولا من بعيد. بعد ذلك، لم أعد أدري من أين تأتيني اللكمات على وجهي، وبدأ الدم يسيل منّي وأغمي عليّ. أيقظوني وتركوني أرتاح خمس ساعات قبل أن يعيدونني إلى التحقيق من جديد. كانت الأسئلة هي ذاتها والتهم تزداد، من تعامل مع المسلحين وتهريب سلاح وتظاهر في صيدا. وبقيت أنكر.
من ثمّ سألني عن عدد أولادي، فأجبته ثلاث بنات. قال لي: "جنيتَ عليهنّ. إذا لم تعترف، سوف تموت". وأنا كنت شهدت بأم العين مقتل أربعة أشخاص. وعندما لم أعترف، أخذوني إلى المهجع من جديد وأوقفوني على كرسي. ربطوا يدَي بشيء لا أعرف ما هو، وسحبوا الكرسي من تحتي. شعرت بأن كتفَي خُلعتا من جسدي. على مدى عشرين يوماً، لم أحسّ بهما. واستمرّ التحقيق معي حتى ساعة متأخرة من الليل وأحياناً حتى طلوع الفجر، إلى أن اعترفت بأنني شاركت بتظاهرتين، خوفاً من الموت تحت التعذيب. وأنا كنت كلّما أنكرت، يأمر المحقق من يعذبني: "خذوه واسلخوه". بعد الاعتراف، أخذوني ورموني في غرفة لا تتسع لشخص واحد مع سبعة أشخاص آخرين مجرّدين من ملابسهم كلها. بعدها نقلوني إلى غرفة صغيرة، رحنا ننام فيها جلوساً. كنا سبعين رجلاً.
بعد التعذيب الذي تعرّضت له في الأمن العسكري في حمص، نقلوني إلى فرع آخر. هناك، أمضيت عشرة أيام، تعرّضت خلالها أيضاً للضرب والتعذيب خلال التحقيق. بعدها نقلوني إلى سجن فرع فلسطين في دمشق حيث الويلات. في رحلتنا تلك، تعرّضنا إلى قصف من قبل المسلحين. الطريق كان مستهدفاً. وعندما وصلنا إلى فرع فلسطين، رميت مكبّل اليدَين مع خمسة أشخاص كانت تهمتهم مساندة المسلحين، على الأرض. كنا على بطوننا عندما راحوا يضربوننا على أقدامنا حتى بتنا لا نشعر بها. بعدها، جرّدوني من ملابسي وأدخلوني مع ستة أشخاص، إلى زنزانة انفرادية. ورحنا نتعرّض لشتى أنواع التعذيب النفسي، قبل الجسدي. يومياً، شتائم وكلام نابٍ وتهديد بالموت. لطالما قيل إن الداخل إلى هذا الفرع مفقود والخارج مولود. كنا نأكل فقط لنعيش، في حين كنا مجرّدين فيه من إنسانيتنا، ومن ملابسنا - كانت بحوزتهم - فيما كانت أحذيتنا وسائدنا.
في يوم، نادوني ورموا لي ملابسي. ارتديتها وذهبت إلى المحقق. أمرني بأن أغطي عينَي، وأن أركع "على الأرض كالكلاب". سألني: "هل تعترف بأنك تظاهرت مع الأسير؟" فأجبت بنعم. وبعدما أنهى استجوابي، أمرني بالعودة إلى المنفردة. شكرت ربي على أن تهمتي رست على التظاهرات، وإلا فالموت مصيري.
بعد أسابيع، نقلت إلى سجن القابون بملابسي الداخلية، ومنه إلى سجن عدرا. هو سجن مدني لم أتعرّض فيه للضرب والإهانات، وبإمكان نزلائه الاتصال بذويهم وتلقّي الزيارات. لكن الاتصال كان محصوراً بالداخل السوري، فهاتفت أقارب لي في حمص ليطمئنوا عائلتي عني ويؤمنوا لي الملابس والمال لأشتري الطعام. وبعد ثلاثة أسابيع، نقلت إلى دائرة الهجرة والجوازات حيث بقيت أسبوعَين لأنني فلسطيني، قبل العودة إلى لبنان.
إقرأ أيضاً: يوم قطعوا رجليّ بالمنشار