رجال تحت الماء

24 سبتمبر 2014
+ الخط -

هل يمكن القول إن موسم الهجرة من غزة نحو الموت هو الجزء الثاني، والأكثر درامية، لمسلسل العدوان الإسرائيلي، وهل تقف وراء هذا الموسم جهات مشبوهة، توهم المهاجرين بأنها تذلل العقبات من أمامهم، ليصلوا إلى الفردوس المفقود هرباً من الجحيم، حيث لا عمل ولا أمان؟
موسم الهجرة الذي بدأ بمجرد انتهاء الفصل الثالث من حلقات العدوان على غزة ناقوس خطر يدقُّ في تاريخ النضال الفلسطيني، فالشعب الفلسطيني، المعروف عنه تمسّكه بأرضه، يفرُّ منها إلى المجهول، وقد كانت هناك عدة أسباب للهجرة، منها المجازر، والتهجير القسري الذي يعمد إليه الاحتلال، مثل منع كل من خرج من فلسطين سبع سنوات من العودة إليها، فتحول آلاف منهم إلى "نازحين" في شتى بقاع الأرض. وهناك من هاجر طواعية بحثاً عن لقمة العيش والأمان، وهما سببان جوهريان لأي إنسان لم يجد الرزق والأمان في وطنه، وليس معنى الوطن أكثر من هاتين الكلمتين، مع صون حقوقه في العبادة والتعبير عن رأيه والعيش بكرامة، وهي الحقوق التي تسلب من الفلسطيني يوماً بعد آخر، في غزة والضفة الغربية والقدس.
في العام 1956، خرج عمي الأكبر مهاجراً في طلب الرزق، بعد أن أوغل الفقر في عائلته الصغيرة، وهو الذي تزوج من شقيقة زوج أخته، زواج بدلٍ كان سائداً ذلك الوقت، بسبب الفقر المدقع، فقد خرج عمي ميمماً شطر شواطئ لبنان، على مركبٍ صغير اشتراها له إخوته الذين يصغرونه، وسموه "رجاء"، رجاءً منهم جميعاً لهذا الأب، ذي الثلاثة أطفال، والذي لم يتلق تعليماً مثلهم أن يخرج من غزة، ليجد الرزق والأمان أيضاً.
كانت مذبحة خان يونس عام 1956 حاضرة في مخيلة كل فلسطيني، وأراد الابن أن يهرب بعائلته نحو حلم غامضٍ، لكنه حمل الوطن بداخله، إلى درجة أنه حين ارتحل، ليلاً، بالقارب الصغير ادّعى، فيما بعد، أنه نسي أصغر أبنائه على الشاطئ، فيما كان يريد تركه في الوطن، ليبقى معلقاً فيه. ولكن، إشارات الإخوة المودعين له في الظلام، مستخدمين ولاعاتهم اليدوية الصغيرة، وبكاء زوجته، أجبراه على العودة إلى الشاطئ، بعد أن ابتعد مسافة كافية، وحمل الصبي ابن الثلاثة أعوام، والذي انهمرت فوق رأسه الأمطار، ما أدى إلى إصابته بالحمّى، ونزلات صدرية متلاحقة، أودت بحياته، بعدما استقر الحال بعائلته في مخيم صيدا، والذي وصلت إليه العائلة بعد مشقة ورحلة عذاب في سجون الاحتلال الإسرائيلي.
اعتقلت القوات البحرية الإسرائيلية القارب، وسحبته نحو ميناء أسدود، واحتجزت من عليه رهائن، فسجن عمي مع الرجال، وسجنت زوجته مع النساء، أما الأطفال الثلاثة فأودعوا سجناً منفرداً بعيداً عن أبويهم، ما أدى إلى تفاقم الوضع الصحي للطفل الأصغر.
يقول عمي: ظل التحقيق مستمراً معنا أياماً، وحين أيقن الصهاينة أننا سنرحل، ولن نفكر بالعودة، أعادونا إلى المكان نفسه الذي اعتقلونا منه، وبالقارب نفسه، وظلوا في حراستنا، حتى وصلنا إلى الحدود اللبنانية. وهناك، تسلمتنا البحرية اللبنانية التي ألقت بنا خوالي الوفاض، إلا من ملابسنا في مخيم صيدا. وهكذا، أمضى عمي بقية عمره بعيداً عن الوطن، ولم ينس رحلة هربه التي خسر فيها أحد أبنائه.
الهجرة إلى الموت والتي تستخدمها عصابات تجار الحروب يجب إيقافها بتفعيل "حكومة التوافق"، لتحقيق بعض تطلعات أهل غزة، وعدم الوقوف مكتوفي الأيدي أمام خزّاناتٍ تحمل رجالاً يموتون في صمت، كما تنبأ غسان كنفاني في روايته "رجال تحت الشمس"، وكأنه فيها أفصح عن نبوءةٍ لمأساةٍ ممتدة لأبناء شعبه الذين يتربص بهم الموت، تحت الشمس أو تحت الماء، فقمة المأساة أن يهرب الإنسان من وطنه، ليموت ميتةً بشعة، يعلمها، أو يختارها، أو يُجبر عليها.

 

سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.