21 يوليو 2024
رئاسيات تونس.. الصدمة ودروسها
وُصفت نتائج الانتخابات الرئاسية التونسية السابقة لأوانها في دورها الأول بالزلزال، بعد أن جاءت، في الحقيقة، صدمة هزت السائد، وزعزعت المألوف وكذبت كل التوقعات، فقد تهاوت منظومتا الحكم والمعارضة على حد السواء، وانحسر اليسار، وتراجعت صورة ومكانة الحزب الأقوى، حركة النهضة، على الرغم من تماسكها منذ انتخابات أكتوبر/ تشرين الأول 2011.
معالم المفاجأة المدوية أيضاً فوز قيس سعيد، المترشح المستقل عن أي حزب، والذي لم يحظ بأي دعم، ولم تكن حملته مشهودة، ولم يعرف له نشاط سياسي ذائع، ولم ترشحه أي من استطلاعات الرأي. الأستاذ الجامعي المختص في القانون الدستوري، المتواضع جداً والملتزم جداً بصورة الأستاذ المحافظ والمدرس التقليدي، والحريص على فصاحته ولغته العربية النخبوية. لم يعرفه التونسيون إلا في مناسبات إعلامية قليلة جداً بمناسبة انتخابات سابقة أو استشارات قانونية مختصرة. وكذلك الصعود اللافت للمرشح نبيل القروي الذي على الرغم من تصدره الاستطلاعات، إلا أن النخب، بمجمل أطيافها، كانت تشكك في هذا التصدر، واعتبرت الرجل رمزاً للشعبوية وموجة عابرة، أفرزتها عواطف فئة فقيرة ومحتاجة من أبناء الشعب التونسي. كان يمدها بالمساعدات، ويقدم لها خدمات صحية واجتماعية تحت غطاء "جمعية خيرية" عبر قناته التلفزيونية الخاصة.
ما اعتبره المحللون منعرجاً كبيراً في الراهن السياسي التونسي تجب قراءته في علاقة بعناصر أساسية متعددة ومختلفة، فالظاهرة هي في الحقيقة نتاج لعوامل خارجية وداخلية، فظاهرة قيس
سعيد مجتمعية في المسرح السياسي الدولي، كان منطلقها فوز الرئيس الأميركي دونالد ترامب المفاجئ أمام منافسته الشرسة هيلاري كلينتون، والتي أوشكت أن تكون أول امرأة تحكم الولايات المتحدة. ونذكر جميعاً أن مفكرين ومختصين، على غرار الألماني ماركوس برتسل، قد وصفوا يومها فوز ترامب المفاجئ ببداية حقبة جديدة في العالم. كان رجل مال وأعمال وتلفزيون دخل حديثاً نادي السياسة والدبلوماسية، واستطاع أن ينتصر على سيدة متمرّسة في ذلك. وفي هذا السياق، يندرج أيضاً اختبار "بريكسيت" في بريطانيا الذي أطاح رئيس الوزراء كاميرون، وجاء بتيريزا ماي التي لم تصمد هي الأخرى طويلاً لتنسحب أمام وزير خارجيتها جونسون. وعلى هذا النسق، صعد ماكرون الشاب في فرنسا الذي اختار أن يؤسس حركة جديدة، أنهت الدور التقليدي للأحزاب العريقة، وأعلنت نهاية الازدواجية الحزبية. وسطع نجم بولسونارو في الحكم في البرازيل. وكانت المفاجأة الكبرى لتؤكد هذا التحول انتخاب الرئيس الشاب فلاديمير زيلنسكي في أوكرانيا، والذي لم يملك في رصيده غير شريط سينمائي عنوانه "خادم الشعب".
ولا يمكن الحديث عن مفاجأة مزلزلة في تونس إذا ما اعتبرنا مجمل الأسباب والعوامل التي أدت إلى هذه النتائج، من أهمها أن قيس سعيد استفاد من مؤشرات عديدة، بينها فشل منظومة الحكم وتشتت وصراعات الأحزاب الكبرى، وغضب الشرائح الواسعة من أداء السياسيين الذين انعزلوا في "أبراجهم" صامين آذانهم عن نبض الشعب وانتظاراته وتطلعه لتحقيق أهداف ثورته في التشغيل والكرامة والتقدم والرقي. وهذا ما يفسر عنوان حملته "الشعب يريد". كذلك فإن ناخبيه الشباب (40% جامعيون) هم شباب مثقف ومتعلم، بينهم عدد مهم من طلبته، يعانون منذ سنوات طويلة من البطالة والتهميش. يضاف إلى ذلك ما اتسمت به صورة الرجل في المخيال الجمعي من استقامة ونظافة يد واستقلالية ووطنية و"طهر ثوري". فانتخاب قيس سعيد إذن مؤشر للقطيعة مع المنظومة السياسية السائدة بخطابها وممارساتها وشخصياتها العاجزة على امتداد ثماني سنوات في أن تكون في مستوى تطلعات الشعب.
يفضي بنا هذا الى درس آخر. يتنزل في المضمار الثقافي الأنثروبولوجي، ذلك أن هذه النتائج أعادت قيماً ثقافية إنسانية، لعلها فقدت في المرحلة الأخيرة. وهي التواضع والزهد في المغانم والجدية في تحمل المسؤولية ورفض الانتهازية في مظاهر عديدة. فضلاً عن التعفف والنقاوة الثورية التي ما زال الشباب يبحث عنها ويؤمن بها. وإذا كان الشباب، كما بينت المعطيات، الخزان الانتخابي لقيس سعيد، وهو على الأغلب جامعي ومتعلم، فإن هذا الشباب رأى في الرجل
تجسيداً لقطيعة مع منظومة حالية بطوق لثقافة سياسية وأخلاقية جديدة ومغايرة. شباب دفعته قناعات أخرى، هي التي جعلته يثور على منظومة حكم بن علي. كان يهتف خلال حملة قيس سعيد بالشعارات الأولى للثورة، مستحضراً عنفوانها. لقد تصادمت تطلعات شرائح شعبية كبيرة مع فشل ذريع في أداء منظومة الحكم والمعارضة من الأحزاب الكبرى والفئات الملتفة حولها، وصولاً إلى شعارات التوافق بسبب تراكم الهزات وتفاقم المؤشرات السلبية على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، ذات التأثير المباشر على معيشة التونسي في تفاصيل حياته اليومية، وانسداد الأفق وضعف الأمل في التغيير وتحسين الأوضاع، ما دفع الناخب إلى المنحى العقابي، والبحث عن البديل المغاير الذي قد يلبّي الحاجيات ويحقق الآمال.
وقد جاء هذا العقاب جماعياً ضارباً أركان المعبد السياسي برمته، حكماً ومعارضة وطبقة سياسية شاملة، في البرلمان وفي الحكم، ما أطاح مصداقية السياسيين أحزاباً ورموزاً. ويذهب محللون إلى أن هذا الوضع لو استمر فسيصل تأثيره إلى نتائج الانتخابات التشريعية، مغيّراً المشهد البرلماني المقبل برمته باتجاه التشتت، ما سيغيب الكتل الكبيرة، وبالتالي غياب الحزام البرلماني الذي سيشدّ أزر الرئيس القادم، ويعطي مصداقية لمبادراته وتوجهاته الجديدة. فضلاً عن إمكانية تشكيل حكومة في ظروف عادية. وهذا ما يفسر صيحات هلع هذه الأحزاب، وفي مقدمتها حركة النهضة وتحيا تونس والبديل والمشروع وغيرها، ساعية إلى حث الناخبين على استشعار المسؤولية والاعتبار بما حصل في الاستحقاق الرئاسي.
ومهما يكن من أمر، لا تمنع مجمل المؤشرات من تسجيل معالم إيجابية مستخلصة من هذه الانتخابات، لعل أهمها الشفافية والنزاهة، وهذا المستوى من النضج الذي أصبح يتسم به الشعب التونسي في التمسّك بمساره الديمقراطي، والحرص على إتمام ملامحه وترسيخ ثقافة جديدة للممارسة الديمقراطية الحرة مما يؤمن مسار الثورة ويحفظ طريقها. بقي على الأحزاب أن تقف متأملة في أدائها مستخلصة دروس هذه النتائج.
ما اعتبره المحللون منعرجاً كبيراً في الراهن السياسي التونسي تجب قراءته في علاقة بعناصر أساسية متعددة ومختلفة، فالظاهرة هي في الحقيقة نتاج لعوامل خارجية وداخلية، فظاهرة قيس
ولا يمكن الحديث عن مفاجأة مزلزلة في تونس إذا ما اعتبرنا مجمل الأسباب والعوامل التي أدت إلى هذه النتائج، من أهمها أن قيس سعيد استفاد من مؤشرات عديدة، بينها فشل منظومة الحكم وتشتت وصراعات الأحزاب الكبرى، وغضب الشرائح الواسعة من أداء السياسيين الذين انعزلوا في "أبراجهم" صامين آذانهم عن نبض الشعب وانتظاراته وتطلعه لتحقيق أهداف ثورته في التشغيل والكرامة والتقدم والرقي. وهذا ما يفسر عنوان حملته "الشعب يريد". كذلك فإن ناخبيه الشباب (40% جامعيون) هم شباب مثقف ومتعلم، بينهم عدد مهم من طلبته، يعانون منذ سنوات طويلة من البطالة والتهميش. يضاف إلى ذلك ما اتسمت به صورة الرجل في المخيال الجمعي من استقامة ونظافة يد واستقلالية ووطنية و"طهر ثوري". فانتخاب قيس سعيد إذن مؤشر للقطيعة مع المنظومة السياسية السائدة بخطابها وممارساتها وشخصياتها العاجزة على امتداد ثماني سنوات في أن تكون في مستوى تطلعات الشعب.
يفضي بنا هذا الى درس آخر. يتنزل في المضمار الثقافي الأنثروبولوجي، ذلك أن هذه النتائج أعادت قيماً ثقافية إنسانية، لعلها فقدت في المرحلة الأخيرة. وهي التواضع والزهد في المغانم والجدية في تحمل المسؤولية ورفض الانتهازية في مظاهر عديدة. فضلاً عن التعفف والنقاوة الثورية التي ما زال الشباب يبحث عنها ويؤمن بها. وإذا كان الشباب، كما بينت المعطيات، الخزان الانتخابي لقيس سعيد، وهو على الأغلب جامعي ومتعلم، فإن هذا الشباب رأى في الرجل
وقد جاء هذا العقاب جماعياً ضارباً أركان المعبد السياسي برمته، حكماً ومعارضة وطبقة سياسية شاملة، في البرلمان وفي الحكم، ما أطاح مصداقية السياسيين أحزاباً ورموزاً. ويذهب محللون إلى أن هذا الوضع لو استمر فسيصل تأثيره إلى نتائج الانتخابات التشريعية، مغيّراً المشهد البرلماني المقبل برمته باتجاه التشتت، ما سيغيب الكتل الكبيرة، وبالتالي غياب الحزام البرلماني الذي سيشدّ أزر الرئيس القادم، ويعطي مصداقية لمبادراته وتوجهاته الجديدة. فضلاً عن إمكانية تشكيل حكومة في ظروف عادية. وهذا ما يفسر صيحات هلع هذه الأحزاب، وفي مقدمتها حركة النهضة وتحيا تونس والبديل والمشروع وغيرها، ساعية إلى حث الناخبين على استشعار المسؤولية والاعتبار بما حصل في الاستحقاق الرئاسي.
ومهما يكن من أمر، لا تمنع مجمل المؤشرات من تسجيل معالم إيجابية مستخلصة من هذه الانتخابات، لعل أهمها الشفافية والنزاهة، وهذا المستوى من النضج الذي أصبح يتسم به الشعب التونسي في التمسّك بمساره الديمقراطي، والحرص على إتمام ملامحه وترسيخ ثقافة جديدة للممارسة الديمقراطية الحرة مما يؤمن مسار الثورة ويحفظ طريقها. بقي على الأحزاب أن تقف متأملة في أدائها مستخلصة دروس هذه النتائج.
مقالات أخرى
25 اغسطس 2023
02 اغسطس 2023
14 يوليو 2023