يشتهي المظلومون العدالة فيهتفون في الأمثال الشعبية: "ديار الظالمين خراب". وهي عبارة تتضمّن الدعاء، والإخبارَ في آن واحد. وقد يكون في المثل بعض الوقائع التي تحقّقت ذات يوم أمام ناظرَي مظلوم، فيُعلن أنَّ العدالة قد أُنجزت، وأنّ حقَّه قد أُعيد له. لا تُرى العدالة هنا إلّا في منظار الظلم، وإزالة المظالم، تلك أقدار عاشتها بلادنا، وغيرها من البلاد، منذ قرون، ولم تصل بعدُ إلى ما يُطمئن دعاءها. والقيام بـ الثورة وحده يعني في عرف الثائرين أنَّ من الممكن أن يزيلوا الظلم، أو أنهم أرادوا أن يرفعوا المظالم بالقدر الذي يستطيعون، على ما يقول أمارتيا سن. ومنذ سبارتاكوس إلى مارتن لوثر كينغ إلى عشرات آلاف الثائرين الذين هتفوا للعدالة والحرية في الشوارع والساحات العربية، واصل البشر سعيهم وراءها.
وتزداد وطأة الشعور بانعدام العدالة شدّةً حين تكون الشعوب - لا الأفراد وحدهم - هي التي تردّد ذلك. بل إنّ حال الأفراد أفضل من حال الشعوب، فما زال بوسعهم أن يتقاضوا، وأن يأملوا من المحاكم والقضاة أن يردّوا لهم حقوقهم.
يرسل جوناثان سويفت بطله غيلِفر في "رحلات غيلِفر" إلى جزيرة خيالية هي ليليبوت بحثاً عن عدالة مفقودة في عالمنا الأرضي، فيرى هناك "أنّ لتمثال العدالة عيوناً ستّة، اثنتين في الأمام، واثنتين في الخلف وواحدة في كل جانب... وفي اليد اليُمنى كيساً مفتوحا مليئاً بالذهب، وفي يده اليسرى سيفاً مغموداً"، حيث تتضمّن العدالة الثوابَ قبل العقاب.
لن ترى غير اليأس لا من غياب العدالة، بل من استحالتها
ويبحث هاملت عن العدالة، فيفكّر بالثأر من الذين قتلوا أباه، فإذا به يتردّد ويحجم، ويصبح مثالاً للبشرية في عجزها، أو عدم يقينها من إمكان تحقيق العدالة. وليس مستغرَباً أن يكون هاملت بمثل هذه الأهمية لدى البشر، وهو من يمثّل اليقين بأنّ لا أمل لديهم، وأنّ اليأس والعبث هما الحقيقتان اللتان تسيّران الوجود وتوجبان عدم القيام بأي فعل. وحين يحسم أمرَه أخيراً و"يثأر" لأبيه فيقتل أمّه وعمّه، لا يسعد بالعدالة، فيقتل نفسه أيضاَ، بما يزيد الشعور بعبث القضية كلّها.
ومن يتتبّع المشاعر التي تحكم الناس اليوم، وخاصة في العالم العربي مثلاً، لن يرى غير اليأس لا من غياب العدالة، بل من استحالتها. يبدو العالم في هذه الأفكار شرّاً محضاً.
ثمّة ما هو هاملتي عديم الرحمة في المصير الذي آلت إليه أحوال البشر. الداهية أنّ هناك من يندمون لأنهم كافحوا، أو شاركوا في الكفاح، من أجل تحقيق العدالة. ذلك أن العاقبة كانت أكثر فظاعةً ممّا كان عليه الحال. فبدل أن يزيلوا الظلم حكمتهم قوى أكثر ظلماً وفساداً، وبدل أن يحقّقوا العدالة، بدت ديار الظالمين أكثر علوّاً، أو انتصر عليهم نصراً مدمّراً ذلك الذي سجّل في تاريخه أبشع الجرائم. والمصيبة أن يكون هو نفسه من يقرّر العدالة.
في خاتمة رواية "اللص والكلاب"، خيَّر رجال البوليس سعيد مهران بين الموت وبين الوقوف أمام العدالة، فصرخ بازدراء: العدالة! ثم راح يطلق النار نحوهم.
* روائي من سورية