من الشمال إلى الجنوب الأوروبي
يشي التسابق في استصدار تشريعات متشدّدة ضد اللاجئين والمهاجرين، حتى بموافقة اليسار واليمين الوسط، بأنّ اليمين المتشدّد يكتسح دولاً أوروبية عدة، وفي طريقه نحو التمدّد، لا احتجاجاً على مشاريع حكومية يسارية، بل بناءً على أفكار تولّدت في الثمانينات حين كانت الأيديولوجيا تجرّ إلى الشارع مئات آلاف المحتجين من الطرفَين.
التقدم اليميني في فرنسا ليس حالة معزولة أبداً، إذ إنّ صعود "الجبهة الوطنية" بزعامة مارين لوبان، في الانتخابات والسياسة الأوروبية، مؤشر، وفق خبراء ومراقبين، إلى عصر جديد مادته اللاجئين والمهاجرين. فمن اليونان إلى رابطة الشمال الإيطالي مروراً بالنمسا ووصولاً إلى إسكندنافيا، ترتفع الأصوات المذكّرة بأزمة أعمق من التصريحات القومية المتشددة في تبدُّل حال تلك المجتمعات.
لا يتردد اليمين المتشدد في السويد، ذو الواجهة الإنسانية واليسارية الاجتماعية، في الدفع نحو تشديدات مفروضة على حكومة خليط من الاجتماعيين الديمقراطيين واليسار وحزب الخضر، خصوصاً بعد تقدّم "ديمقراطيو السويد"، (يمين قومي متشدّد)، بزعامة جيمي أوكسون، الذي أشارت استطلاعات الرأي الأخيرة إلى حصوله على 22 و27 في المائة من الأصوات، مقابل 13 في المائة في انتخابات العام الماضي.
وفي تحالفات مع يمين الوسط، بات "ديمقراطيو السويد"، يشكّل ضغطاً متزايداً على رئيس الوزراء، ستيفان لوفين، لدفعه في اتخاذ تشريعات أكثر تشدداً ممّا توقعه كثيرون ضد اللاجئين. ببساطة، يرى كثيرون، أنّ تأثير الاندفاع اليميني حان قطافه في السويد، اليوم. ليس هذا فحسب، يلقى حزب أوكسون ترحيباً من الحركة النازية الجديدة، وهي الأقوى في الشمال الأوروبي بتحالفات تمتد من النرويج إلى بريطانيا.
لا يختلف الأمر كثيراً في الدنمارك، إذ تلتحق تشديدات بأخرى، حتى وصلت إلى ما يسمى "34 بنداً"، ومنها: إقامة معسكرات خيم للاجئين، التي بدأ إنشاؤها تحت الثلوج وفرض إجراءات ببناء مراكز ترحيل، يتّسع أحدها لنحو 700 عائلة ضمن حراسة مشدّدة و"قوننة" مشاركة المواطنين في اعتقال مَن يجب ترحيلهم. وهذا يعني أنّه يحق للشرطة أيضاً الاستعانة بالمواطنين لتوقيف من يُراد ترحيله.
في كوبنهاغن، يشعر حزب "الشعب الدنماركي" اليميني المتشدّد، بزعامة بيا كيرسغوورد، بقوتّه من خلال الاستطلاعات التي تعزّز موقعه، كثاني أكبر الأحزاب البرلمانية بعد "الاجتماعي الديمقراطي" الحاكم. وتكمن المفارقة الغريبة، في أنّ حزب "الشعب" يتجاوز كل أحزاب يمين الوسط بما فيه الحزب الحاكم وخطابه، في انصبابه على قضية الهجرة واللجوء أكثر من أية قضية ثانية.
قامت دعاية "الشعب" منذ تأسيسه عام 1995، على مواقف متشنجة قومياً، وجدت شعبيتها بالتصويت له كدعوة أحد أقطابه، عضو برلمان سابق عنه، توم بينكه، الذي قال عام 1997: "علينا أن نعيد الصوماليين حتى لو لم يكن على ظهورهم مظلّات هبوط، وهذا لا يزعجني". عام 2001، وبعدما انتقل بينكه إلى حزب "المحافظين"، جنباً إلى جنب مع السياسي البرلماني من أصول عربية، ناصر خضر، ورفع في الانتخابات الأخيرة ملصق "الإسلامية تساوي النازية"، عاد ليثير ضجة أخرى عام 2012، قائلاً "علينا أن نتذكر أنّ أعياد المسلمين التي يحتفلون بها في الدنمارك، الفطر والأضحى، هي أعياد تحتفي بذبح المسيحيين في تلك الأوقات".
اقرأ أيضاً: المسلمون والانتخابات الأميركية: التصريحات العنصرية لترامب تُكسبهم تعاطفاً
يبدو واضحاً أنّ تلك التصريحات لم يُحاسب عليها أحد، بل تصاعدت وتيرتها إلى حد قول سياسيين آخرين مثل كيرسغوورد، ووزيرة الدمج الحالية، إنغا ستويبرغ، وغيرهما من أقطاب اليمين، أخيراً، "هؤلاء (المسلمون) لا يمكنهم أن يكونوا جزءاً من حضارتنا. توجد حضارة واحدة وهي حضارتنا فقط...".
ولا يختلف الأمر كثيراً في فنلندا عمّا يجري في النرويج من تشديدات تشمل معظم دول الشمال، وارتفاع نبرة الخطاب اليميني القومي المتشدد، إذ بدأ النرويج حيث يحكم يمين الوسط، بتشديدات تطال، من خلال حملات واضحة، المهاجرين من أصول مسلمة.
وتعيش ألمانيا المشهد ذاته للعبة المستشار الألماني السابق، هلموت كول، أب الوحدة الألمانية، في التنازل لليمين المتشدد، حتى وصلت إلى أحزاب ومنظمات وحركات اجتماعية ـ سياسية تفرض نفسها وخطابها على أنّه طبيعي جداً، مثل الحزب "الوطني الاشتراكي" (نازيون)، بالإضافة إلى حزب "البديل من أجل ألمانيا" الشعبوي، مع تشدد في مواقف أحزاب يمين الوسط التقليدية.
وعلى الرغم من أنّ شعبية المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، لا تزال مرتفعة، وفق استطلاع أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، الذي أشار إلى أنّ أكثر من 80 في المائة من الألمان يطلبون منها الترشح عام 2017، يتقدم اليمين المتشدّد، ويسير إلى جانب تلك الاستطلاعات، فيضطر تحالف ميركل إلى مجاراة ذلك التقدم بمزيد من القرارات الحازمة، خوفاً من أن يسحب البساط لمصلحته. كما يشارك في فعاليات حركة "بيغيدا" (المناهضة للإسلام والمهاجرين) بزعامة لوتس باخمان، أعضاء من اليمين المتشدد من أحزاب يقودها رجال ونساء بلباس عصري ومكياج استديوهات يصوّرهم كوطنيّين، يكمن هدفهم في المحافظة على بلادهم من "الأسلمة".
"وقف الأسلمة"، مفتاح خطاب كل تلك الأحزاب والحركات الأوروبية، اليمين المتشدد الذي لم يصل إلى السلطة في اسكندنافيا وغيرها، مثل حزب "ديمقراطيو السويد" و"الشعب الدنماركي"، يدفعون نتيجة ما حصلوا عليه من مقاعد، إلى خطوات تذكّر بتاريخ يهود أوروبا وغجرها والعرقيات والإثنيات التي حُمّلت مسؤولية كل آفات المجتمعات في ثلاثينات الركود الاقتصادي والهزيمة أمام قوى أخرى. تنجرّ أحزاب برلمانية محسوبة على يسار الوسط، بناءً على خوف تراجع شعبيتها في أية انتخابات، للتسابق على فرض تشديدات برلمانية يريدها اليمين.
شرق أوروبا
في هنغاريا، التي يقودها رئيس الوزراء فيكتور أوربان، صديق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وفي كل من التشيك، وسلوفاكيا، وبولندا، خرجت تصريحات حكومية تتوافق إلى حدّ ما مع كلام ترامب. ما قام به أوربان في بودابست، هو بالضبط ما أرادته الدول المحيطة والأبعد في تحالف يميني متشدد داخل الاتحاد الأوروبي. وقال رؤساء حكومات أوروبية، وبكل وضوح، "لا نريد مسلمين من اللاجئين". القطارات التي كانت تحمل النساء والأطفال والرجال وتمرّ في أراضي المجر باتجاه النمسا، ثم تتوقف في منتصف الطريق لإنزال هؤلاء إلى معسكرات، تشبه مشاهد من أفلام سينمائية عن الحقبة النازية.
من الواضح أنّ اليمين القومي المتشدد شرق أوروبا يتقدم، وبالأرقام والاستطلاعات، وهي دول من الاتحاد الأوروبي، تستشري فيها التوجهات القومية لأسباب عدة يطول شرحها، لكنها تختزل كل مشاكلها في كيفية "إبعاد المسلمين عن حدودها".
اقرأ أيضاً: فرنسا: اليمين المتطرّف يُعبّد طريق رئاسيات 2017
داخل مجالس الشباب المولودين في الغرب من أصول عربية وإسلامية، يُطرح السؤال عمّا إذا كان سيتم وضعهم يوماً ما في معسكرات ترحيل كتلك التي أقامها النازيون. هؤلاء الشباب الذين يتلقون تعليمهم في مدارس أوروبا الغربية، التي تعطي دروساً مفروضة عن الحقبة النازية والهولوكوست وزيارات للمعسكرات في بولندا، يشعرون بكآبة ما تصنعه القرارات على يوميات أهاليهم، حتى لو لم تستهدفهم مباشرة، في ظل انتشار عجز اليسار أمام اكتساح يميني يفرض شروطه في مفاوضات تشديد القوانين. وباتوا أمام اجتماع متناقض بين الاجتماعيين الديمقراطيين واليمين المتشدد ببناء ما يسمونه "قرى اللاجئين"، كما يحدث في حزمة التشديدات في كوبنهاغن.
تتعالى الأصوات المتشددة في دول كان يُنظر إليها كنموذج للرقي، بأنها "في حرب مع الدولة الإسلامية ويحق لنا أن نتجاوز حتى المواثيق والمعاهدات الدولية وحقوق الإنسان". تلك ليست صورة تشاؤم ولا تحمل تهويلاً لما يجري، بل هو الواقع الذي يشغل فيه دونالد ترامب الجميع بتصريحاته، بينما بخطى حثيثة، يجري تنفيذ ما هو أخطر منها سياسياً واجتماعياً في عدد من دول أوروبا التي تتصرّف بالعدوى والتقليد. فإذا كانت اسكندنافيا تنفّذ تلك الإجراءات المتشددة، وبلد الثورة الفرنسية، ثورة الحرية والإخاء، تُعتبر لوبان ممثّلتها، تصبح أسئلة المراهقين من أصول عربية مشروعة، "هل نحن متجهون نحو حرب أهلية في أوروبا؟".
مسؤولية اليسار
من دون أدنى شكّ، هناك نقاش مفتوح عن دور اليسار الأوروبي، والتقليدي تحديداً في البرلمانات، وليس اليسار الذي لا يقبل الدخول في الانتخابات (مجموعات الشيوعيين في عموم اسكندنافيا)، في ترك المسرح لتقدم اليمين المتشدّد. التحالف النازي والفاشي، وهكذا يسمى من دون مواربة في صحافة وإعلام اليسار والمختصين، ينسّق في ما بينه على امتداد أوروبا، متبنّياً برامج متشابهة فوق قومية تتجاوز حدود الدول الوطنية.
ويوجّه بعض خبراء علم الاجتماع السياسي ومختصون في الانتخابات وتغيّر الرأي العام، انتقادات عدة إلى هذا اليسار الذي عيّنه على مقاعد برلمانية، وانحياز بعضه نحو الوسط، محمّلين إياه مسؤولية ترك حركات فاشية تتقدم بواجهة أحزاب سياسية وانتقال شخصيات من حزب إلى آخر، ويُنظر إليه اليوم في بعض الدول الشمالية كـ"تابع وذَيْلي"، سواء للاجتماعيين الديمقراطيين أو بعض الليبراليين بوجه إنساني، وفقاً للخبراء أنفسهم.
ويرفض كتّاب ومثقفون غربيون منذ سنوات، أي ما قبل ظهور ترامب، كل تلك الفوقية والعنصرية في طلب "الدولة النقية وتنظيفها من كل ما هو غير غربي، وتحديداً العرب والمسلمين". هؤلاء المفكرون والكتّاب والصحافيون، ليسوا بمنأى عن تهديدات التشدد اليميني، فهم يلقّبون بـ"مثقفي البلشفية"، (البلشفية، ثورة الشيوعيين في روسيا بهدف إقامة دولة اشتراكية عام 1917)، ويجري التحريض ضدهم مثلما يحصل مع المسلمين منذ أواسط تسعينات القرن الماضي. واشتدّ التحريض بعد 11 سبتمبر/ أيلول 2001، حين ارتفعت أصوات سياسية مثل كيرسغوورد التي قالت بعد هجمات نيويورك: "لا توجد حضارة سوى حضارتنا وعلينا الاشتراك مع الولايات المتحدة لضرب هؤلاء".
ليس فقط ضعف اليسار وتردّد برامجه مَن يتحمل مسؤولية هذا التطور السلبي، فهناك عوامل اجتماعية وسياسية واقتصادية عدة. لكن إلى جانب ذلك، تتحمل مؤسسات الجاليات مسؤولية كبيرة في إهدار الأصوات وتنازع الولاءات (داخلياً وبين الدول الداعمة لمراكزها). وكانت ذهنية عدم الاشتراك في الانتخابات، بحسب كثيرين، واحدة من أكثر القضايا الخاسرة للمسلمين الذين لم يشكلوا وزناً انتخابياً كما فعل الأتراك في ألمانيا والأرمن في فرنسا. فقط في العامين الأخيرين، بدأت تصحو بعض المنظمات على خطورة البقاء على الهامش بمنع المشاركة الديمقراطية والإقلاع عن خطاب: "الديمقراطية شرك وإلحاد"، لتترك مئات آلاف الشباب ينخرطون في الأحزاب السياسية.
اقرأ أيضاً: تحريض يميني أميركي ضد السعودية من بوابة اعتداء كاليفورنيا