درب الآلام الإلزامي

04 ابريل 2015

عمل لـ(كلاوس بندالي)

+ الخط -

لا يقتصر "درب الآلام"، في المفهوم الإنساني، على مسيحانية جزء من عالم السبعة مليارات نسمة، بل يتجاوز الإطار المُوجّه الذي بُني عليه، ليطال كل إنسان في كل زمان ومكان. لم يبدأ هذا الدرب منذ وُجدت رسالة دينية في فلسطين المحتلّة، إنما من اللحظة التي تشكّلت فيها أول خلية في المياه على كوكب الأرض، التي منها أتى كل شيء. هناك من الآلام ما يُمكن وضعه في إطارٍ ايجابي، كالوجع المرضي الذي يسبق الشفاء الكامل، أو الثورة القاسية التي تسبق تنظيم المجتمع، أو حرب تحريرية لردّ محتلّ ما. وتبلغ إيجابية هذه الآلام حدّها الأقصى، حين يتمّ تأبين مسببّ الشفاء أو صانع الثورة أو بطل التحرير، فلا تعود الأمور إلى الوراء بموته، ولا ينتهي أي حراك لأي مجتمع بعد خروجه من الصورة. لاحقاً، يتمّ تخليد الإنجازات بنصبٍ تذكاري، يُمسي، بعد فترة، أحد "الهوامش" الرئيسية، في مسار مجتمعيّ.

في تلك الحالة، يُصبح "درب الآلام" اختيارياً، بعد تحقيق ثلاثية "الخبز، العلم، الحرية"، وتتدرّج الاختيارات التي تُصبح خيارات "أفلاطونية" في بعض الأحيان، وفقاً لحاجة الشعوب وأهدافها. قد يحدث أن يسعى مجتمع، بعد تحقيقه أهدافه الأساسية سابقاً في التاريخ، إلى تأمين ريّ الصحارى، أو تغيير مواقع مدنه وقراه، أو الانشغال بأمورٍ فضائية وكونية أو تفصيلية صغيرة، وغيرها من الأفكار التي تُعدّ "مثالية" في مجتمعات "الآلام السلبية".

أما مجتمعات "الآلام السلبية" فليست سوى مكان، يبدو حالياً خارج مجال المسار التاريخي الواجب. تتناسخ في سياقه كل الحروب، فهي الآلام "الإلزامية" التي تدور في حلقة مفرغة ومرعبة من الصراع التمييزي، على أساس ديني أو طائفي أو مذهبي أو عرقي أو إثني... ولا تكون في هذه الحالة ثلاثية "الخبز، العلم، الحرية" هدفاً مركزياً، كمرحلة أولى للمتقاتلين، لا بل يقومون باستغلالها حتى، في سبيل ما يتقاتلون بشأنه، فتتعدّى نزاعاتهم مبدأ "حسّ البقاء"، على الرغم من غرائزيته المفرطة، لمصلحة مبدأ "القتل للقتل"، باسم عقيدة أو فكرة، قابلة للتغيير أو النقض دائماً.

"درب الآلام" المشرقي لم يخرج بعد من مبدأ "القتل للقتل"، كديمومة لكأس الدم التي تتجرّع منها شعوب المنطقة، منذ قيام حضارات بلاد ما بين النهرين، خصوصاً أن انقسام المفاهيم في تفسير حالة كل بلدٍ لم تأتِ، بمعظمها، لا كلّها، من خلفية "الخبز، العلم، الحرية"، بل من واقع استمرارية قتال أمس بأسلحة اليوم. وسمحت تلك الحالة لكثيرين استغلالها، بغية إبقاء درب الآلام في مساره "الإلزامي"، على أن تتوارثه الأجيال الآتية صراعاً لا مفرّ منه. مع العلم أن المسالك التي سيتخذها أي منتصر ستؤدي إلى إشعال الحروب مرة أخرى، في صورة نموذجية لميكانيكية مشرقية تقليدية. ولا يُمكن الخروج من هذا الانقسام الحادّ على صعيد تفسير ما يجري في المنطقة، سوى عبر تأكيد أولوية عناوين الصراع، وإلا لن يبقى الدم المسفوك وحيداً، بل ستنساب دماء أخرى في حقبات آتية.

أين تكمن المأساة في دراما "درب الآلام"؟ تكمن في أن الآلاف، بل مئات الآلاف، يموتون لأجل لا شيء، فقط لأجل قادة مجانين يربطون كل شيء بشخصهم، أو لأجل فكرةٍ غير أكيدة، مع أن الأفكار لم تكن محسومة يوماً، بل قابلة للنقاش في كل حين. والأسوأ أن من عناصر تذخير درب آلامنا المشرقي، هو ترك ما يُمكن أن يثور من أجله الإنسان جانباً، فقط لهدر الطاقات والجهود على أمورٍ ثانوية، منفصلة، أحياناً، عن الأهداف الأساسية لأي حراك، فقط لتكريس أزلية درب الآلام في هذه المنطقة من الكوكب. وبما أن الأفكار قابلة للتبديل، ربما سيأتي يوم تُصبح فيه فكرة "حتمية الحروب في الشرق" مجرّد ذكرى سيئة. ربما.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".