في محاولة لفهم دور الفرد منا في ظل حالة التيه التي أصابت العالم، خطر في ذهني بعض من المشاهد حدثت في الأعوام السابقة لثورة 25 يناير، وتساءلت ماذا لو تغيرت الإجابات وفكرنا خارج السياق؟!
المشهد الأول: لدي صديق كان شغوفاً بالعلوم السياسية عندما بدأ تحديد اختياراته للالتحاق بالمرحلة الجامعية، ذهب إلى أحد كبار قادة الإخوان في ذلك الوقت، وكان محبوساً في قضية المحاكمات العسكرية الأخيرة أيام المخلوع مبارك، فأخبره عن اهتماماته وشغفه بدراسة السياسة، فجاوبه القيادي "بلاش سياسة.. بلدنا دي مسارات السياسة فيها مقفولة على ناس معينة ركز في الإدارة أو ادرس اقتصاد أفضلك".
النتيجة: الشاب درس إدارة أعمال وودع حلمه بدراسة العلوم السياسية.
المشهد الثاني: في أحد المعسكرات التربوية التي تقام كل عام للمنتسبين للجماعة سأل أحدهم "هو لو حصل في يوم من الأيام وبقينا أغلبية زي حماس وبطريقة أو بأخرى طُلب منا تشكيل الحكومة، هنعرف ندير البلد إزاي واحنا ملناش حد لا في الداخلية ولا الجيش ولا القضاء أو السلك الدبلوماسي مثلا".
النتيجة: الرد كان عبارة عن مجموعة من التبريرات التي لا تمت للواقع بصلة حول استجلاب الخبرات من دول العالم، والإتيان بها إلى مصر للمساعدة في إدارة الدولة.
المشهد الثالث: أحد الطلاب تولدت لديه قناعة أن الحق يحتاج لقوة تحميه، وأراد أن يخوض تجربة صنع دوائر تأثير داخل المؤسسات الحساسة، بلغ مسؤوله التربوي عن نيته التقدم للكلية الحربية ليكون يد الجماعة في الداخل!! الرد جاء سريعا من المسؤول حيث رتب له لقاء مع أحد المدبرين لمحاولة الانقلاب على السادات المعروفة إعلاميا بقضية الكلية الفنية العسكرية، حاول إثناء الفتى عن الفكرة قدر المستطاع وأخبره أن تلك المؤسسات حساسة ويصعب اختراقها من الداخل.
النتيجة: التحق الشاب بكلية التجارة وأصبح محاسب قد الدنيا.
من تلك المظاهر وغيرها تستنتج كيف لم ينجح الإسلاميون في إدارة دولة ذات حدود مترامية الأطراف وملفات داخلية وإقليمية، لم يقترب منها أحد يحمل فكراً إصلاحيا منذ ستين عاماً ويزيد.
هنا تبرز القاعدة الموروثة لأبناء التنظيمات المجتمعية "إنكار الذات والأنا في سبيل الكل والجماعة"، وهي القاعدة التي أدت إلى حالة من الفقر في القيادات التخصصية، في الملفات الأساسية المختلفة "السياسة والأمن والقضاء والسلك الدبلوماسي والحكم الذاتي والتنمية المحلية ومحاربة الفساد..إلخ".
ذات القاعدة تشابكت، مع تجريف قدرات الشباب ومواهبهم، إما بتصريفهم إلى مسارات محددة هي المسموح لهم العمل من خلالها من قبل النظام، أو التسلط على طريقة تفكيرهم والتوجيه نحو الانخراط في المنظومة التقليدية التي يعيشها أي مواطن عادي، فضلا عن عوامل أخرى ألقت بظلالها على المشهد الحالي الذي وصلنا إليه اليوم على مستوى عالمنا العربي.
ولأنه لم يعد في العمر متسع للندم على ما فات ولن يسعنا الوقت، فالطريق طويل والثغر قد اتسع، نحتاج قدراً من الانعزال لطائفة من أبناء الجيل، نستعيد بها قدرتنا على التفكير خارج السياق والسير خارج المدار المُعد لنا مسبقا.
ففي العزلة جنون، قد يفضي إلى الإبداع، ومن الذي يشك أننا في أمس الحاجة إلى مجانين يتخطون حاجز الإدراك ليستوعبوا الأحداث التي نمر بها، ويتجاوزوا اللحظة الآنية ليستشرفوا المستقبل ويتخيلوه في أذهانهم ثم يخلقوا منه واقعاً عملياً.
لن يكون ذلك إلا إذا استنفر من أبناء جيلنا من يحملون على عاتقهم هم الكفاية في تلك الملفات التي لم نجد لها متصدراً من أبناء الفكر الإصلاحي، نحتاج أن نعالج حالة التماهي بين الإنجازات الفردية والجماعية، ونصب تركيزنا على إنتاج الفرد وأن يهتم كل منا بالبصمة التي سيتركها في الحياة لنجعل من سنوات التيه التي نحياها فترة إعداد لجيل من الخبراء المتخصصين في كافة المجالات، يعملون في صمت من وراء الستار لكتابة سيناريو المستقبل، لا يسمع لهم صوت إنما لهم وقع كدبيب النمل.
يكفينا أن نعرف أنه ما من كيان أو منظمة أو حزب أو مؤسسة ناجحة، إلا ويقف خلفها جنود يعملون في صمت يبغضون الضوضاء التي تبثها الشهرة، ومن أمامهم قائداً مُلهَماً ومُلهِماً لهم يحثهم على المضي قدماً، بقلب يغلبه اليقين وحركة دؤوبة لا تمل ولا تكل.
الفرصة ما زالت مواتية للدراسة والبحث والإعداد لنتجاوز المرحلة، ونعد خططا وبرامج على مستوى الفرد لبلوغ المستقبل، فلن يعتلي زمام الثورة القادمة إلا من هو جدير فـ "المستقبل لنا لا لغيرنا كل ما هنالك أن الحياة تحب المستنفرين والمستنفرون بالحياة جديرون".
*مصر