داعش ... الطائفية والنفوذ والتمويل والمخاطر
يستند تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش) على أسس عقائديةٍ وطائفيةٍ سنّيةٍ، تسعى إلى مواجهة المؤسسات والتنظيمات الشيعية في العراق وسورية، (وقريباً؟) في دول عربية محيطة، امتداداً للصراع التاريخي ما بين الحسين بن علي بن أبي طالب ويزيد بن معاوية الذي أطاح الحسين في معركة كربلاء، وأسفر عن ذلك تقديس الشيعة ضريح الحسين في كربلاء، والذي اعتبروه سيّد الشهداء وناصر المظلومين. لم تنته المعركة حتى يومنا، وما تزال تبعاتها تتضاعف وتتفاعل، ويتم استغلالها لتأجيج الصراع الطائفيّ بين الشيعة والسنّة. وما يزال أهل الشيعة يشتمون سقيفة بني ساعدة، بعد مرور نحو أربعة عشر قرناً على تلك الواقعة، التي أسفرت عن تولية الصحابي أبي بكر الصديق أميراً على المسلمين، في وقت انشغل فيه الإمام علي، كرم الله وجهه، بتغسيل جثمان النبي محمد عليه السلام، فأقصي عن أحقية الخلافة.
شهدت القارة الأوروبية صراعاً مثيلاً، وحرباً طاحنة امتدت ثلاثين عاماً (1618– 1648) أدّت إلى تقليص سكان ألمانيا، آنذاك، بنسبة 30% عقب النزاع الدموي بين الكاثوليك والبروتستانت، وأصل التسمية Protest أي الاحتجاج على تعاليم الكاثوليك، لكن الحرب انتهت بصلح وستفاليا، ووقعت معاهدة مونستر التي وضعت حداً للصراع السياسي الديني، وبهذا فصلت السياسة عن الدين، وتمكنت أوروبا من تحقيق التقدم المنشود، خلافاً للصراع الطائفيّ الدمويّ بين الشيعة والسنّة، وما تزال شعوب العالم العربي تدفع ثمنه حتى اللحظة.
الجهاديون ومشروع الدولة الاجتماعية
انطلق تنظيم داعش بسرعة، وتمكن من فرض حضوره في سورية، وهو يمتدّ الآن ليفرض سيطرته على بعض المدن العراقية، ويسعى جاهداً إلى الوصول إلى منابع النفط العراقية، لكي يحصل على مصدر تمويل شبه دائم، في وقت تتخبط فيه السلطات العراقية والقوى الأمنية وقوام الجيش ومؤسسات الدولة الخاضعة لإرادة سلطةٍ، عملت على تهميش المصالح السنيّة في البلاد، مما ساعد على رفع معدلات التوتر والكراهية بين الفئتين الشعبيتين، إضافة إلى النفوذ الإيراني الكبير في العراق.
طلب رئيس الوزراء (الشيعي)، نوري المالكي، من الأميركيين تدخلاً عسكرياً. لكن، ليس متوقعاً دخول جيوش أميركية إلى العراق، وتكرار أخطائهم في حرب الخليج، وتحمل مزيد من التبعات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. وليس متوقعاً، أيضاً، تدخل شمال العراق الكردي الساعي نحو استقلال كامل عن العراق، بعيداً عن تعقيداته العرقيّة، ليجد المالكي نفسه من دون حلفاء، الأمر الذي استدعاه لحشد حركة شعبية شيعية واسعة لمواجهة داعش، ولن تسفر هذه المواجهة عن حلٍّ ناجعٍ لهذا الصراع، بل ستعمل على تعميق هذه الأزمة، وستحثّ طوائف السنّة على الاندماج والتماهي مع داعش.
عملياً، هناك إمكانية كبيرة لأن تؤدي الحرب الأهلية في العراق إلى تقريب المسافة بين طهران وواشنطن، باعتبار داعش عدواً مشتركاً لإيران والولايات المتحدة الأميركية على حدّ سواء، في وقت ترى فيه أميركا الجمهورية الإسلامية واحة من الاستقرار والهدوء، مقارنة بما يحدث في منطقة الشرق الأوسط.
أخذت داعش في الاعتبار تجربة تنظيم حزب الله الشيعي في لبنان، الذي تمكّن من إيجاد بوتقة مستقلة، ومجتمع – دولة شيعي، خارج إطار الدولة اللبنانية، لذا، سارع تنظيم داعش إلى تحقيق سياسة اجتماعية، تضمن للعائلات الأمان والمأوى والمأكل، جنباً إلى جنب مع قوانين الشريعة الصارمة، وأشرفت داعش، مثالاً، على العناية بدار الأيتام في الرقة. وسهّل التنظيم كذلك للتجار في مناطق نفوذهم مقايضة السلع والبضائع المختلفة، تجنباً لاستخدام العملة المحلية "الليرة" التي فقدت كثيراً من قيمتها، نتيجة الحرب الأهلية والإبادة الجماعية والتدمير المنظم للبنى التحتية التي يمارسها النظام السوري منذ سنوات. ويهتم هذا التنظيم بالحفاظ على نظام الطاقة وتوفير الخدمات المختلفة، ليصبح في مناطق نفوذه دولةً منظمةً ذات مؤسسات فاعلة، تطمح للبقاء لفترات طويلة الأمد، وليس مجرد تنظيمٍ عابرٍ في هذه المنطقة المتفجرة.
تمويل ذاتي
خلافاً لما يعتقد كثيرون أن هذا التنظيم يحصل على دعم مالي كبير من أثرياء الخليج، في ظلّ العزلة التي يواجهها هذا التنظيم، نشرت صحيفة الغارديان البريطانية معلوماتٍ، إثر حصولها على 160 جهازاً دقيقاً لتخزين البيانات "فلاشة" تابعة لتنطيم داعش، وتؤكد هذه البيانات أنّ داعش منظمة حازمة ذات بنى قوية وتمويل ذاتي، حصلت على جزء كبير من موازنتها، بعد سيطرتها، في العام الماضي، على محطات تكرير النفط في شمال سورية، وبيعها آثاراً تاريخية ومعالم حضارية منقولة، وابتزازها أموالاً من الأثرياء. ووفقاً لتقرير صادر عن مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، تحصل داعش من عائدات النفط فقط على 50 مليون دولار شهرياً. ويذهب التنظيم إلى أبعد من ذلك، ليضع تقارير مالية مفصلة ودقيقة، يشرح فيها أوجه الصرف المالي، وكأنّه منظمة حكومية، أو بنكاً دولياً رائداً.
وتمكّن داعش كذلك من كسب غنائم الجيش العراقي المنهزم، من تجهيزات عسكرية أميركية وأسلحة وذخائر، والأهم من ذلك، السيطرة على بنوكٍ عراقية في الموصل، وتقدر الأموال التي اغتنمها داعش بنحو نصف مليار دولار. لذا، فإن الأموال المخصصة للجهاد كثيرة، ويمكن لداعش اجتذاب متطوعين للجهاد في صفوفها ضدّ الشيعة.
الخلافة في مواجهة ولاية الفقيه
يعتبر تنظيم داعش الإرهابي، من وجهة النظر الأميركية، تحدياً كبيراً لإدارة الرئيس الأميركي، باراك أوباما، حيث خسرت أميركا المليارات وآلاف الجنود في حرب الخليج الثانية في العراق. ويمكن لتنظيم داعش، حال تنامي قدراته، أن يشكل تهديداً لإسرائيل والأردن، كما جاء، أخيراً، في صحيفة "نيويورك تايمز"، وتهديداً لباقي حلفاء أميركا في المنطقة. وهناك كذلك ما يدعو للقلق في إيران، بعد تموضع مشروع الخلافة الإسلامية السنيّة ضدّ نظام ولاية الفقيه في العراق ذي الأغلبية الشيعية. لذا، من المتوقع أن تتدخل إيران بكل الطرق والأساليب الممكنة لوقف تقدم داعش، وقد بدأت بإرسال قوات لمواجهة داعش عسكرياً. وتفيد معلومات بوصول قائد فرقة القدس الخاصة، الجنرال قاسم سليماني، إلى بغداد، للتحضير وإعداد القوات المعنية بالدفاع عن بغداد.
وسرعان ما صرح الرئيس الإيراني، حسن روحاني، عن استعداد بلاده للدفاع عن الشيعة في العراق. وقد حذر وزير الخارجية السعودي، الأمير سعود الفيصل، من نذر حرب أهلية في العراق، في كلمته في افتتاح مؤتمر وزراء خارجية الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي في جدة، معارضاً التدخل الأجنبي والأجندات الخارجية، ومنع تحويل العراق والدول التي خاضت غمار الاضطراب السياسي ممراً لتيارات التطرف وموجات الإرهاب المختلفة.
وقد تراجع وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، عن تصريحاته بشأن إمكانية اللجوء لتعاون عسكري مع إيران، بعد انتقاداتٍ شديدةٍ تعرض لها في البنتاغون والبيت الأبيض والكونغرس. لكن، هناك دوافع عديدة دعت الوزير لإعلان هذه التصريحات، آخذاً بالاعتبار الدور الإيراني الاستخباراتي في الحرب الأميركية ضدّ طالبان "السنّة" في العام 2001، وأكّد وزير الدفاع، تشاك هيغل، هذا التعاون بين البلدين. لكن، يجب أن لا ننسى كذلك معارضة الجمهوريين الشديدة للتعاون مع إيران التي وصفوها بمحور الشر، واعتبار أميركا بالنسبة لإيران، إلى وقت قريب، "الشيطان الأكبر"، فهل يلتقي الغريمان لإطاحة عدو مشترك!
من المتوقع، كذلك، أن تسعى الدبلوماسية الأميركية إلى إيجاد حلولٍ سياسيةٍ للأزمة العراقية، وتقديم تنازلاتٍ لفئات السنّة، لتجنب صدامٍ عسكري غير مرغوب به وفقاً لأجندة إدارة أوباما ورغبته بعدم التورط العسكري في المناطق الساخنة حول العالم. وردّاً على تساؤلٍ سابق بشأن التحالف الأميركي الإيراني، سيجد أوباما معارضة شديدة من المملكة العربية السعودية وإسرائيل أيضاً التي ترفض رفع استحقاقات إيران في المنطقة، وبسط نفوذها، ولو لمواجهة تنظيمات إرهابية ومتطرفة. وتعتبر التقارير الأخيرة التي نشرتها الخارجية الأمريكية ووزارة المالية إيرانَ من أكبر ممولي الإرهاب في العالم، وهي التي لم تتوقف لحظة عن تمويل "حزب الله" اللبناني الشيعي، والتنظيم الفلسطيني "حماس"، فكيف يمكن التعاون مع إيران على المستوى الاستراتيجي، بل ذهب زعيم الأقلية الجمهورية، في مجلس النواب الأميركي، جون بينر، إلى أبعد من ذلك، وطالب بعدم التحدث مع إيران بشأن الأزمة العراقية نهائياً، وأبدى مخاوفه من ردود فعل حلفاء أميركا في المنطقة، على خلفية تعاون محتمل مع إيران.
لا تبشر الأزمة العراقية بالخير، وستعمل على كشف التناقضات العرقية والعقائدية التي يعاني منها هذا البلد العريق، وستضع الحكومة العراقية، بزعامة نوري المالكي، على المحك في هذه المواجهة العنيفة، خصوصاً أن أوجه الفساد مستشرية في مؤسسات الدولة، مع انعدام العدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بحقّ الأقليات المختلفة، وفي مقدمتها الأقلية السنيّة، وداعش المتحدث باسمها إلى أجلٍ قد يطول.