حين تساعد أميركا السودان غذائياً

03 يونيو 2015

سفينة مساعدات الغذاء الأميركية في ميناء بورتسودان (28 مايو/2015/أ.ف.ب)

+ الخط -
قبل أيام، رست الباخرة الأميركية، ليبرتي غرايس، في ميناء بورتسودان، لتفرغ من جوفها نحو 50 ألف طن من المساعدات الغذائية الأميركية للسودان. ويقول الخبر إن "ليبرتي" ستساعد "الأهالي المتضررين من النزاع ومجموعات أخرى هشة، وتعاني انعدام الأمن الغذائي". ويلفت نظر المتابع في هذا الخبر ما ورد في تفصيله "وبدأ عشرات عمال الرصيف في ميناء بورتسودان تفريغ حمولة الباخرة العملاقة". وينتهي الأمر إلى "وتقول الأمم المتحدة إن نحو 4.4 ملايين شخص يعانون من انعدام الأمن الغذائي بمستويات مختلفة في السودان".

خبر محزن، فهذه سلة خبز العالم فارغة، تعود إلى السيرة الأولى باعتماد "المعونة الأميركية" مجددا إلى السودان، وبالباب العريض الواسع. خبر قد يعيد إلى ذاكرتك "الاعتذار المفضوح" الذي جهر به معمر القذافي عن خرافة الكتاب الأخضر، وإعلانه إن ليبيا تفتح أبوابها أمام الاقتصاد الحر. المفارقة أن توقيت وصول المعونة الأميركية، هذه المرة، يأتي مباشرة عقب الانتخابات التي كان أهم ما رفعه خلالها المرشح الفائز، الرئيس عمر البشير، أن السودان سيشهد "نهضة اقتصادية". والاقتصاد السوداني يرقد متوسداً، طالما أن الطماطم يتم استيرادها من الأردن وإريتريا، وطالما أن صناعة النسيج فارقت الحياة، وأسدلت الستار على حقبة مضيئة ومشرقة في الصناعة الوطنية. وعلى الرغم من هذه الكارثة، إذا قيض لك أن تسأل أياً من المسؤولين في السودان، سيرد عليك بأن السودان محسود ومستهدف من قوى "هلامية"، لا يعجبها "النعيم وطريق الحق الذي يسير عليه السودان". وسوف يرد عليك بأن السودان سيشهد ثورة اقتصادية غير مسبوقة "بالطبع إذا لم يقل لك إن أميركا نفسها تمر بمثل هذه الأزمات". ومن يستهدف السودان هي القوى الأميركية والصهيونية، وها هي أميركا تستهدف السودان بمعونة غذائية يتسلمها السودان بكل الرضا، "ويسارع العمل في الميناء بإفراغ حمولتها".

المحزن في أمر الخبر وسلة العالم الفارغة أن الانقلاب العسكري الذي قامت به الحركة الإسلامية، بقيادة حسن الترابي، عام 1989، اختار لكي يميز نفسه عن باقي العهود التي سبقته شعارات فضفاضة، منها شعار أثير لديهم "نأكل مما نزرع ونلبس مما نصنع". كان هذا الشعار اللحن المميز الذي طبع سنوات نظام الإنقاذ الأولى، لكن ما جرى فعلاً أن الصناعة، وخصوصاً صناعة النسيج قد توفيت إلى رحمة الله. وأغلقت جميع المصانع تقريباً، وغيرها كثير من الصناعات الأخرى. والسبب السياسات الحكومية المتبعة، وخصوصاً السياسات الضريبية والجبايات بمختلف ألوانها. أما الشق الآخر من الشعار، ففقد انهارت المشاريع الزراعية الكبرى، وقصمت السياسات الضريبية والزكاة والجبايات ظهر محاصيل السودان الأخرى والزراعة، وأصبحنا نستورد كثيراً من الخضر والفاكهة، في بلد يفترض أنه مصدرها.

والمحزن أن حكومة الإنقاذ الحالية تعيد، وبشكل رديء جداً، تفاصيل الأزمة السودانية التي لازمت اقتصاده، ومنذ حقبة ما بعد الاستعمار. الغريب أن أكبر مثال على الفشل هذا السياسي والاقتصادي وتحقيق الأمن الغذائي يجسده صرح هو الأكبر في العاصمة السودانية، وأعني قاعة الصداقة. هذا المركز الضخم الثقافي، وأهم ملتقى للفعاليات الفنية والسياسية والمؤتمرات العالمية والإقليمية، يجسد أمراض الجسم السياسي السوداني، وعته من تقلبوا على الحكم. فقد كنت أحد أفراد مجموعة نستمع إلى رواية وزير الزراعة السوداني في بدايات حكم الرئيس جعفر نميري. لك أن تتخيل أن ذلك الوزير يحمل الدكتوراه في الزراعة، لكنه فضل أن يتباهى بتشييد قاعة الصداقة (المقصود الصداقة السودانية - الصينية). واختصر ما قاله بأن وفد السودان الذي زار الصين عام 1972، بقيادة وزير الدفاع آنذاك، اللواء خالد حسن عباس، قد طلب توجيه المنحة الصينية التي قدمتها الصين الشعبية للشعب السوداني لبناء قاعة للمؤتمرات الدولية، غير أن القيادة الصينية، ممثلة في ماوتسي تونغ وشوان لاي، قالت إن هدف المنحة تعليم المزارع السوداني فنون زراعة القمح، وإقامة مزارع للقمح في السودان، بحيث، بحسب رواية الوزير، "
لكي يتخلص السودان، وللأبد، من المنحة الأميركية وغيرها، ويحقق السودان الاكتفاء من القمح وغيره من الحبوب". تمسك الوفد الصيني بهدفه، فيما أكد الوفد السوداني على ضرورة إقامة صرح للمؤتمرات، ووفق قول الوزير "السودان سيصبح محجة للمؤتمرات واللقاءات العالمية". وكان من رأي شوان لاي، في رده على استفسار الزعيم ماو، باعتباره من زار السودان، أن مبنى البرلمان السوداني، كما خطب فيه يوم أن زار الخرطوم، يكفي لهذا الغرض في تلك المرحلة. ولمزيد من الحرص، أنهى الرئيس ماو الاجتماع مع الوفد السوداني، بأن يتم حسم القرار في اليوم الأخير للزيارة، وبعد أن يمنح الوفد السوداني نفسه فرصة كافية لاتخاذ القرار. ولسوء حظ الشعب السوداني، اتخذ الوفد قراره بتوجيه المنحة الصينية لبناء قاعة الصداقة.

هنا يتفق الحكم الحالي مع حكم نميري في الشعارات الفارغة نفسها، من قبيل "نأكل مما نزرع..". ومع هذا، سيقول لك أي مسؤول سوداني إن أميركا تستهدف السودان، وتريد أن "تقضي على التجربة الإسلامية المتقدمة فيه". والمعونة الأميركية، كما في الخبر، تحمل الذرة الرفيعة، وهو أهم ما تنتجه الزراعة المطرية في السودان. منه يعتاش ليس فقط أهل السودان، بل ودول مجاورة. سلة الغذاء خاوية، وتفتح أبوابها لدخول المعونة الأميركية، وبرضا تام من الحكومة. تُرى أي نهضة هذه التي تبدأ بيد سفلى تقبل العون من "أهم وأكبر متآمر على السودان وشعبه"؟ أمر محزن، لكنه واقع مؤلم دمرته الشعارات "فلم نأكل مما نزرع ولم نلبس مما نصنع". ويا لها من مفارقة مؤلمة حينما تهوى الشعارات.

0CD72F94-2857-4257-B30C-7F645EA599D7
طارق الشيخ

كاتب وصحفي سوداني، دكتوراة من جامعة صوفيا، نشر مقالات وموضوعات صجفية عديدة في الصحافة العربية، يعمل في صحيفة الراية القطرية، عمل سابقاً رئيس تحرير ل "الميدان" الرياضي السودانية.