حياتله .."اللاجئ الأبدي"

01 مارس 2015
الشاعر حياتله ترافقه فلسطين أينما ارتحل(العربي الجديد)
+ الخط -
تسأل إياد حياتله عن نفسه، فيروي لك بإحساس شاعر مرهف... متمرد "على السؤال العبثي": "ولدت في ليلة شتائية باردة في بركس مشرع للريح والمطر في ثكنة خالد بن الوليد، عام 1960، وقد صارت مخيما للعودة في حمص. فيكون أول هواء أستنشقه قادما من بابا عمرو".
كلما التبس أصل إياد على كثيرين يعود ليذكر بمن يكون، شعرا هذه المرة: "أنا الرجل الطويل العريض، الذي غادرت المخيم في متسع من الوقت ذات نهار خريفي، وحزمت حقائبي على تفاصيله التي لا تموت، وأغلقت قلبي بسبعة أقفال دونه".
من الشجرة في الجليل، يصبح إياد "قبل الولادة"، كما يقول، "لاجئا" في الجليل نفسه، أولا في لوبية ثم عيلبون... وإلى الشمال قليلا إلى بنت جبيل فحارم والضبعة والخالدية وحمص فاليرموك... ومدن عربية أخرى حتى غلاسكو.
لكنه يعيدك دوما إلى الجذور "عائلتي حياتله تتحدّر من قرية حيتل في الجولان المحتل". الالتباس في فهم هذا الاختلاط في هوية إياد حياتله يوضحه بنفسه في مضافة جده الذي لا يفارق "الرجل الطويل العريض". ويبدو جد إياد الشخص الأكثر تأثيرا في حياته، حتى وهو في غلاسكو، فيقول: "في مضافة جدّك تتطلّعُ محدّقاً في يده اليمنى وهي تعزفُ لحن الحياة على المهباج الذي كان هديّة البطن الحوراني من عائلتكم لكم، تتساءلُ- وأنت ابن سنواتٍ فقط- كيف لهذا اللاجئ الأعمى أن تضحك عيونه ويرقص جسده منتشياً وهو يحتضن قرميّة الخشب هذه بيد، ويراقصها باليد الأخرى، أيّةُ بصيرةٍ فتحت قلبه على ذلك لو لم يكن حرّاً؟!"
يخبر إياد عن مضافة جده مشبها إياها بـ"صالون أدبي"، وفيه أتيحت له فرصة الاستماع الأول في طفولته إلى الأشعار "حيث كان يجتمع فيه الشعار والزجالون والمهتمون من أهالي المخيم لتبادل مواويل الوطن، واستذكار لياليه الفائتات، واستشراف صباحاته القادمات".
في مضافة جده "كامل هوين حياتله"، أبو هوين، أنصت إياد لأبي سعيد الحطيني والحاج فرحان سلام ويوسف الحسون وشاعر العتابا السوري أبو محمد السواني والشعار والمغني الشجراوي "أبو عرب".

لا انفكاك ولا انفصام إذاً بين فلسطينية وسورية هذا الشاعر، الذي كلما فتحنا بابا للولوج منه إلى خصوصيته، عاد منه يسرد عليك هذا الامتزاج في جمالية صورة ومحتوى الانتماء العابر "لحدود مصطنعة". لإياد ذاكرة لا تضيع التفاصيل فيها، وعنها يقول: "هناك بين المخيّم وبابا عمرو ملعب طفولتك ومدرج طيرانكَ نحو المستقبل، هناكَ... يكون رنين القيود في يدي والدك في سجن البولوني أوّل ما يتشكّل في ذاكرتك عن معنى الحريّة والأسر، وما بين الخالديّة وباب الدريب وباب السباع والثكنة والشمّاس والساقية وقطّينة وعاصي القصير وعين التنور والرستن، تمتزجُ فلسطينيّتك بسوريّتك وتتجذّران سويّا في قلبك الصغير الكبير".
هو لا يرى سورية سوى عمقه الوجودي، مسترسلا في التفاصيل: "تتعرف أكثر على محيطك السوري المتشابك فلسطينيّاً، التضامن وشوامه الطيّبون، بساتين يلدا ومشمشها وجوزها، الحجر الأسود وبحراته وآباره، القدم وقطاراتها، كفر سوسة ومسابحها، داريّا وأعنابها، المزّة وصبّارها، الشام وحميديّتها ومرجتها ومعرضها وصالحيّتها، المخيّمات الكشفيّة في عقربا والبويضة وبيت نايم، الربوة والسباحة في نهر بردى، الأمويّ الذي يحملك صوت أذانه إلى الأقصى، ضريح صلاح الدين الذي تشمُّ في فنائه رائحة القدس العتيقة المعتّقة، كلّ ما يصادفك هنا له وجهان، سوريٌّ وفلسطينيّ.. شاميٌّ وجليليّ".
ذلك المزج يراه بوابة موقف "لا مساومة عليه ولا حياد فيه"، هو لا تستهويه كثيرا مفردة الحياد ويقول: "عندما تكونُ فلسطينيّاً، الحياد لا وجود له مطلقاً في قاموسِ لغتِك، وأنّك منحازٌ دائماً وأبداً للمظلومين والفقراء، وفوق كلّ هذا، فأنتَ منذ اليوم الأوّل لولادتك وحتّى رحيلك عن هذه الدنيا خُلقتَ وتكوّنتَ لتقفَ مع الثورة".
وها هو اليوم في غلاسكو باسكتلندا منذ 14 سنة.
ترحل لميس تيم ويبقى اللاجئ الأبدي عاشقا...
تزوج إياد حياتله من لميس تيم عام 1988، بعد عام من الخطوبة. ولأنه صاحب الروح القلقة لم يحاصره المكان، فهو "اللاجئ الأبدي" متنقلا يسعى وراء الحياة. رحل إلى ليبيا في مسعاه للعمل، ولم يكن لابنه البكر عاطف أسبوعان من العمر. ومن ليبيا إلى اليمن لسنوات عدة، تضع لميس ولده الثاني ماهر، وهو بعيد عنهم يسعى وراء رزقه.
يقول إياد: "كانت لميس مثالا للمرأة الفلسطينية الصابرة المجاهدة، شاركتني حلو الحياة ومرها، فقررنا الهجرة سويا إلى أوروبا؛ بحثا عن الرزق والحرية. في اسكتلندا بدأنا حياتنا من تحت الصفر، عانينا وجع الفقر وبرد الغربة معا، وبدأنا بناء مستقبلنا الجديد خطوة خطوة وكتفا إلى كتف".
لميس بالنسبة لشاعر كإياد لم تكن زوجة بالمعنى التقليدي، فهي بالنسبة له، وبكلماته، توأم روحه الذي فجعته الغربة قبل عام باختطافه بلا مقدمات "رحيل لميس الفجائي كسر ظهري، وفقدت به صدرا حنونا كنت أبكي عليه عندما تقسو عليّ الحياة، هنا مشينا كل دروبنا لأكثر من ربع قرن معا إلى طريق المقبرة، حيث ذهبنا سوياً وعدت وحدي، لم أشعر باسكتلندا وطناً إلا حين احتضن ترابها رفاة لميس".
الألم على فراق لميس حفر عميقا في الروح القلقة، مرهفا بمشاعره وهو يعتب على هذه الغربة التي نزعت منه "حبيبة وزوجة وأماً وأباً ومخيماً ووطناً. أتذكر لميس التي لم تستكن لرفاهية الحياة هنا، أذكرها حين ولدت ابننا الصغير فارس في 2003 حين كنت وحيدا معها بلا أهل ولا أحد في غرفة الولادة، قبلت يدها وسالت دموعي على وجهها ووجه الوليد الجديد، هي المرة الأولى التي كنت معها لحظة الولادة".

بدأ إياد كتابة الشعر الفصيح في مرحلة الدراسة الإعداديّة، ونشر بعضه في المجلات في نهاية ثمانينيات وبداية تسعينيات القرن الماضي (مجلّة الهدف ـ الكاتب الفلسطيني ـ الوحدة) وشارك في أمسيات شعريّة كثيرة حينها في دمشق كملتقى أبو سلمى للشعراء الشباب الذي تم تنظيمه من قبل الشاعر الفلسطيني خالد أبو خالد عام 1988.
المساهمون