حياة بالإنابة

24 يونيو 2015
ونذهب بعيداً في تلك الرحلات التخيليّة... (عن الإنترنت)
+ الخط -

التحقيق مستمرّ حول اختفاء ذلك العالم المغربيّ. يتسارع نبضها وقد بدأ الخاطفون يشكّكون في هويّته. قد لا تتمكّن الشقيقتان باركر من إنقاذه قبل فوات الأوان. تحثّهما على الإسراع. تقلق.

***

تشعر بوقع أقدام تقترب. تطفئ سريعاً المصباح الصغير وتقطع أنفاسها وتسكن تحت حرامها السميك. والدها يتحقّق من أن النافذة مغلقة في غرفة نومها وأخوَيها. ما من داعٍ لذلك، لكن وسواسه القهري دائماً ما يدفعه إلى التأكد مراراً وتكراراً من أن كل شيء "مظبوط". تنتظر لدقائق قبل أن تشعل المصباح من جديد وتسلّطه على الصفحة 73 من روايتها تلك.

الرواية بوليسيّة من سلسلة "المكتبة الخضراء" الفرنسيّة للمراهقين، وهي في سنِيّ مراهقتها الأولى. هذا النوع الأدبيّ راح يستحوذ عليها، لتدمنه لاحقاً وقد تعرّفت على عرض أغاتا كريستي المحكم للأحداث وعلى تشويقها في حلّ الألغاز. أدمنت ذلك النوع، وتبنّت أسلوب المحقّق هيركول بوارو ومِس ماربل - اثنان من أبطال الروائيّة البريطانيّة - في التحليل والشكّ وتقديم القرائن. وكلما صحّت استقصاءاتها، ردّدت: "بركاتكِ أغاتا كريستي!".

هي أدمنت ذلك النوع باللغة الفرنسيّة حصراً.. كأنما الإثارة والتشويق لا يتناسبان مع اللغة العربيّة التي لطالما ربطتها بالأسى والآلام. قد يعود ذلك إلى "الرغيف".. أوّل رواية قرأتها لتوفيق يوسف عواد، والتي استعادت بها بعضاً مما كانت ترويه جدّتها عن جراد الحرب العالميّة الأولى.

***

في تلك الروايات البوليسيّة وغيرها، اعتادت الذهاب بعيداً والتماهي مع أبطالها لا بل بطلاتها في أغلب الأحيان. لطالما خطت بشجاعة أو ارتعدت خوفاً أو جزلت عشقاً أو بكت حزناً... كانت تلك الروايات هروبها الكبير من واقع لم يُشعرها يوماً بالاكتفاء ولا بالأمان.

الروايات، مهما حاولت محاكاة واقع مرتجى - أو مغاير فحسب -، تبقى أحداثها مركّبة في حين أن أبطالها لم يروا النور قطّ. بالرغم من ذلك، نتماهى مع هؤلاء الأخيرين ونتأثر بالأحداث. هي مجرّد أسلوب مختلف للهروب من واقعنا.

ونذهب بعيداً في تلك الرحلات التخيليّة، لنجد أنفسنا بحسب الفلسفة الأخلاقيّة وقد تقمّصنا ارتياب محقّقٍ في حين أو شغف عاشق في آخر أو ألم ضحيّة - يختلف جلادوها - في كثير من الأحيان. تلك التصوّرات تمنحنا بطريقة ما حيوات بالإنابة. ونجد أنفسنا بتماسٍ مع تعقيدات حيواتنا وتعقيدات حيوات آخرين، فنختبر بطريقة أو بأخرى أوضاعاً لا نعيشها.. نتلبّس ببعضها ونرفض أخرى.

الفريد، والعابر الزائل، والحسيّ، والدقيق، وصدفة اللقاء، وخفقان القلب، وحدّة المشاعر أو الاشتباك.. تفاصيل من رحلاتنا التخيليّة تلك، بعيداً عن يوميات نجترّها.

اقرأ أيضاً: يا نايم وحّد الدايم
المساهمون