09 أكتوبر 2024
حسابات السياسة السعودية
تنسب عبارة "السياسة هي فن الممكن" لمستشار ألمانيا، وصاحب وحدتها الأولى، أتوفون بسمارك (1815-1898)، وقد درج الناس على استخدامها لتعريف السياسة، نظراً لسهولة تردادها وقدرتها التعبيرية الهائلة عن ماهية الفعل السياسي، وهي أنها غير ممكنة خارج حدود الواقع والقدرات، أما الوجه الآخر للسياسة، الأقل شهرة والأكثر تعبيراً عن جوهرها، فهي أنها فعل عقلاني (Rational) يقوم على دراسةٍ واعيةٍ للظروف والمتغيرات لتحقيق المصلحة. وعندما ينتفي عن السياسة هذا المظهر، ندخل في فضاء آخر، لا ينتمي إلى ميدان الفعل السياسي القابل للتفسير، بل نتعدّاه إما إلى عالم الغيبيات، حيث لا تعود السياسة مفهومة، ولا حتى مقبولة، باعتبارها فعلاً مبتذلاً يسعى وراء مصالح مادية رخيصة، أو ندخل عالم اللاواقع واللامعقول، حيث تمارس السياسة بطريقةٍ غير عقلانية، وتأتي بنتائج عكسية.
شاهدتُ السياسة السعودية، في السنوات القليلة الماضية، تنوس (أو تتأرجح) بين هذين العالمين: عالم السياسة وعالم اللا-سياسة، عالم الواقع وعالم اللاواقع، حيث بدت لي بعض السياسات عصيةً على الفهم، وبعضها الآخر يعود بعكس المرجو منها. لاحظت مثلاً أن السعودية فتحت، في عز أيام الربيع العربي، (أي عندما كانت في موقف دفاعي بحت) حرباً على جبهتين، تمثلان الإسلام السياسي (بتياراته الشيعية والسنية) في الآن نفسه، ففي وقتٍ كانت تخوض فيه حرباً طاحنة في سورية مع إيران، وكل امتداداتها في المنطقة من حكومة نوري المالكي في بغداد إلى حزب الله في لبنان، وما بينهما من قوى ومليشيات، دخلت السعودية في صراع مرير مع التيارات الإسلامية السنية، الإخوان المسلمين خصوصاً الذين تمكّنوا من الوصول إلى السلطة في بعض الدول العربية، وفي مقدمتها مصر، وقد وضعها هذا الموقف في مواجهةٍ مع تركيا باعتبارها تقود أو تقدم نموذجاً للإسلام السياسي، بنسخته السنية المركنتلية، والذي نظرت إليه السعودية خصماً أيديولوجيا ينافسها على النموذج والشرعية.
خلال العام 2014، وفيما كانت المعركة على أشدّها مع إيران في سورية، ومع تركيا في مصر، ضاع اليمن، ولم تصح السعودية مطلع العام 2015 إلا والمليشيات الحوثية تحاصر عدن بعد أن استولت على صنعاء. في لحظة عودةٍ إلى السياسة (العقل)، قرّرت السعودية أنها لا تستطيع أن تستمر في خوض معركتين في الآن معاً ضد أكبر قوتين إقليميتين في المنطقة: تركيا، باعتبارها أكبر اقتصادات المنطقة وأثقلها سياسياً، وإيران التي تقود جيشاً من المليشيات التي تفتك بنسيج المنطقة. بناء عليه، اتخذت السعودية قراراً بإنهاء الصراع مع تركيا، خصوصاً وأن الأمر كان قد حسم لصالح الانقلاب في مصر.
في هذه المرحلة، بدا وكأن السعودية تركز جهدها على حشد الطاقات العربية والإسلامية، لتحجيم النفوذ الإيراني من اليمن إلى سورية والعراق، فانتهت الأزمة الدبلوماسية مع قطر (والتي نشأت بسبب الموقف من الانقلاب في مصر ومن ثورات الربيع العربي عموماً)، وتعزّزت العلاقات مع تركيا، وأخذت الرياض تعيد نسج علاقاتها مع حزب الإصلاح في اليمن، والذي يعد أحد تيارات تنظيم الإخوان المسلمين الذي كانت السعودية صنفته إرهابياً في ذروة الصراع مع تركيا وتيارات الإسلام السياسي السني، كما عادت الاتصالات مع حركة حماس التي ناصبتها السعودية العداء، على الرغم من أنها كانت خرجت من المعسكر الإيراني، بسبب موقفها من الثورة السورية.
خلال الشهرين الماضيين، عادت السعودية إلى ممارسة السياسة بطريقةٍ غير مفهومة، ففي وقت تخسر فيه أمام إيران في سورية والعراق، وتبدو عاجزةً عن حسم الصراع في اليمن، أعادت السعودية فتح معركة غير مبرّرة مع قطر وتركيا (حليفيها في صراعها الذي غدا وجودياً مع إيران في سورية واليمن والعراق).
ليس فقط أن السعودية خسرت حلفاء حيث يعز الحليف، وربحت خصوماً لا تفتقد كثرتهم، وعادت إلى موقعٍ تجد فيه نفسها في حرب مع الجميع، وهو موقفٌ دفاعي أمام إيران، بل راحت تحصد نتائج عكسية، إذ لم تعد فقط في احتكاك مباشر مع قوة إقليمية كبرى واحدة في الخليج (إيران)، بل استدعت الأخرى أيضاً إليها (تركيا). فبحق الله، هلا من يشرح لنا منطق السياسة السعودية، وحساباتها، فقد استعنتُ ببسمارك، وكلاوزفيتز، ومترنيخ وتاليران، ولم أجد عندهم إجابة!
شاهدتُ السياسة السعودية، في السنوات القليلة الماضية، تنوس (أو تتأرجح) بين هذين العالمين: عالم السياسة وعالم اللا-سياسة، عالم الواقع وعالم اللاواقع، حيث بدت لي بعض السياسات عصيةً على الفهم، وبعضها الآخر يعود بعكس المرجو منها. لاحظت مثلاً أن السعودية فتحت، في عز أيام الربيع العربي، (أي عندما كانت في موقف دفاعي بحت) حرباً على جبهتين، تمثلان الإسلام السياسي (بتياراته الشيعية والسنية) في الآن نفسه، ففي وقتٍ كانت تخوض فيه حرباً طاحنة في سورية مع إيران، وكل امتداداتها في المنطقة من حكومة نوري المالكي في بغداد إلى حزب الله في لبنان، وما بينهما من قوى ومليشيات، دخلت السعودية في صراع مرير مع التيارات الإسلامية السنية، الإخوان المسلمين خصوصاً الذين تمكّنوا من الوصول إلى السلطة في بعض الدول العربية، وفي مقدمتها مصر، وقد وضعها هذا الموقف في مواجهةٍ مع تركيا باعتبارها تقود أو تقدم نموذجاً للإسلام السياسي، بنسخته السنية المركنتلية، والذي نظرت إليه السعودية خصماً أيديولوجيا ينافسها على النموذج والشرعية.
خلال العام 2014، وفيما كانت المعركة على أشدّها مع إيران في سورية، ومع تركيا في مصر، ضاع اليمن، ولم تصح السعودية مطلع العام 2015 إلا والمليشيات الحوثية تحاصر عدن بعد أن استولت على صنعاء. في لحظة عودةٍ إلى السياسة (العقل)، قرّرت السعودية أنها لا تستطيع أن تستمر في خوض معركتين في الآن معاً ضد أكبر قوتين إقليميتين في المنطقة: تركيا، باعتبارها أكبر اقتصادات المنطقة وأثقلها سياسياً، وإيران التي تقود جيشاً من المليشيات التي تفتك بنسيج المنطقة. بناء عليه، اتخذت السعودية قراراً بإنهاء الصراع مع تركيا، خصوصاً وأن الأمر كان قد حسم لصالح الانقلاب في مصر.
في هذه المرحلة، بدا وكأن السعودية تركز جهدها على حشد الطاقات العربية والإسلامية، لتحجيم النفوذ الإيراني من اليمن إلى سورية والعراق، فانتهت الأزمة الدبلوماسية مع قطر (والتي نشأت بسبب الموقف من الانقلاب في مصر ومن ثورات الربيع العربي عموماً)، وتعزّزت العلاقات مع تركيا، وأخذت الرياض تعيد نسج علاقاتها مع حزب الإصلاح في اليمن، والذي يعد أحد تيارات تنظيم الإخوان المسلمين الذي كانت السعودية صنفته إرهابياً في ذروة الصراع مع تركيا وتيارات الإسلام السياسي السني، كما عادت الاتصالات مع حركة حماس التي ناصبتها السعودية العداء، على الرغم من أنها كانت خرجت من المعسكر الإيراني، بسبب موقفها من الثورة السورية.
خلال الشهرين الماضيين، عادت السعودية إلى ممارسة السياسة بطريقةٍ غير مفهومة، ففي وقت تخسر فيه أمام إيران في سورية والعراق، وتبدو عاجزةً عن حسم الصراع في اليمن، أعادت السعودية فتح معركة غير مبرّرة مع قطر وتركيا (حليفيها في صراعها الذي غدا وجودياً مع إيران في سورية واليمن والعراق).
ليس فقط أن السعودية خسرت حلفاء حيث يعز الحليف، وربحت خصوماً لا تفتقد كثرتهم، وعادت إلى موقعٍ تجد فيه نفسها في حرب مع الجميع، وهو موقفٌ دفاعي أمام إيران، بل راحت تحصد نتائج عكسية، إذ لم تعد فقط في احتكاك مباشر مع قوة إقليمية كبرى واحدة في الخليج (إيران)، بل استدعت الأخرى أيضاً إليها (تركيا). فبحق الله، هلا من يشرح لنا منطق السياسة السعودية، وحساباتها، فقد استعنتُ ببسمارك، وكلاوزفيتز، ومترنيخ وتاليران، ولم أجد عندهم إجابة!