بعيني طفل، ينظر إلى المارّة، ولا يرونه. يفغر فمه دهشةً، كأنه يرى وجه إنسان للمرة الأولى. منذ أن قالت له أمه، إنه سيصبح كاتباً، وهو يلهث وراء الأشياء، يفككها ثم يعيد تركيبها، لقد كتب عليه التَّعب مبكّراً. واقفاً في الشرفة، يجري حديثاً مقتضباً مع الذاكرة.
يقول لنفسه: أريد أن أكتب نصّاً، يخلو من الأبطال، أعلي فيه من شأن التفاصيل الصغيرة. فكّر جديّاً بالرجوع إلى الغرفة، لتمزيق مسودة روايته. لا يريد فلسطينيّاً يمشي على الماء، لأنه يعيش في زمن موسوم بالعُري، بلا معجزات. كل ما يحتاج إليه هو طفل، يعيد اكتشاف الأشياء، وينظر إليها من زاوية نظر جديدة، مُدّعياً البراءة.
سيكتب، على سبيل المثال، عن امرأة قروية، ترتدي ثوباً فلسطينيّاً مطرَّزاً، تبيع الزعتر البري والنعناع، قرب دوار المنارة في رام الله، وعن عامل النظافة الذي يعرفه أهل المدينة، بعربته التي يزينها بورود بلاستيكيّة، ومسجل صغير.
لقد سئم من المرويّات التي تتحدّث عن "الانتصار الأكيد للحق"، دون التساؤل، عن الإمكانيات والأدوات المتوافرة لإنجازه. يريد أن يكون أكثر صدقاً مع نفسه والآخرين، أن يكتب عن خساراتنا وهزائمنا الصغيرة، بعيداً عن صورة البطل ـ المسيح.
بمعنى آخر، لقد أصبح يرى في الرواية ـ الحكاية، التي يضاف إليها متخيّل رغائبي، فائض، إلى المتخيل الروائي، رواية مستحيلة، لا تمس الواقع المعيش سوى مسّ خفيف، سطحي.
إنه الآن، يشتهي برتقال الذاكرة، يخلق عالماً جديداً، يستعيد فيه "الزمن المُشتهى". يقول: إن لم نكن قادرين على صناعة حاضرنا، فثمّة حياة تستحق أن تعاش، تنتمي إلى ما قبل الكارثة، ولنعلن عن ميلاد أدب الهشاشة.
الأدب الذي بمقدوره أن يقول، ما لا نستطيع قوله، نتيجة تضخُّم الأنا وسلطة الكتابة. إنها عمليّة خلق لعالمٍ متخيَّل، يضاهي الواقع ويفوقه.
واقفاً في الشرفة، ساهماً بين أفكاره. تذكّر حديث جدّته الحيفاويّة: حبيبي، هذا الصندوق يعود لجدّك، في جوفه أغلى ما تبقى من رائحته وذكراه، افتحه وانظر ما فيه، أنت تشبه جدّك كثيراً بسحنتك الحزينة، وثقافتك، وحبك للمعرفة والحياة.
كان الصندوق كبيراً ومغلقاً بقفل معدني، بعد أن أداره، ألقى نظرة على محتوياته: أوراق قديمة ومهترئة. مستندات تمليك أراضٍ ومحلات. صور لحيفا وأحيائها. مسبحة جميلة بحباتها الثلاث والثلاثين. كتب صفراء تعود إلى القرن الماضي. مفتاح بارد بحجم الكف.
تلمّس الأشياء برهافة، ثم أدناها من أنفه واستنشق رائحتها، كانت محمّلة بالدفء والحنين. عاد إلى الغرفة، ثم مزّق مسودة روايته، ليكتب نصّاً جديداً، عن حيفا وصندوق جدته.