حتى لا تتكرر مجزرة المسجدين
ساهم الإعلام الشعبوي في شيطنة المسلمين في بقاع شتى من العالم، وأبدى هذا الإعلام انزعاجه من التنامي الفعلي للإسلام، مما أوصل لنهاية حتمية تمثلت في رؤية مشاهد القتل مقروناً بالاستماع لأغانٍ عنصرية تهاجم مضامين الإسلام، مع قناعات راسخة بأن الرجل ليس مجنوناً، فأين التتبع الأمني لسجلات متطرف سبق أن أشار قبيل المجزرة لنواياه المبيتة الشريرة عبر صفحات الإنترنت، ويدين في فعلته هذه لاثنين وهما: اندريس بيرفيك مرتكب مجزرة النرويج عام 2011، والمتطرف ألكسندر بيسونيت صاحب الهجوم الدموي على أحد المساجد الكندية عام 2017.
وفيما يلي عشرة عوامل ساهمت بصورة أو بأخرى في وقوع تلك المجزرة القابلة للتكرار ما لم يتم التوصل إلى مخرج يكفل عدم تكرارها:
أولاً: الخوف من انتشار الإسلام، ففي رحلته لفرنسا استلهم السفاح تارانت فكرة الجريمة، وقال: إنَّ رحلته إلى فرنسا عام 2017 ألهمته تنفيذ الهجوم، ولم يخف ضيقه من حقيقة مكانة المسلمين في فرنسا، وتشير الحقائق لنمو متسارع للإسلام في أوروبا عامة وفرنسا على وجه الخصوص.
ثانياً: الطفولة البائسة، فقد ولد لأبوين بريطانيين من الطبقة العاملة، منتميا لأسرة منخفضة الدخل في بلدة غرافتون البلدة الصغيرة الواقعة في شمال نيو ساوث ويلز باستراليا، ودرس في مدرسة ثانوية محلية، وكانت طفولته عادية مع ضعف اهتمامه بالتعليم بل واحتقاره للتعليم الجامعي، وقد نشأ اليميني المتطرف برينتون تارانت معاديا للمهاجرين، متبنيا فكر الرجل الأبيض.
ثالثاً: ما أتاحته وسائل السوشيال ميديا من مادة إغراء يهفو الراديكاليون لتقليدها، ويساعدهم في ذلك انتشار منصات السوشال ميديا والهواتف الذكية، ما يمنحهم أدوات فاعلة لاستعراض ذواتهم، ولكن قطعا ليس إلى حد التجرؤ على تصوير جرائمهم بصورة استعراضية تنم عن مرض نفسي مزمن، يضاف لذلك التقصير في ميدان رصد خطاب الكراهية للمنظمات التي تؤمن بتميز العرق الأبيض، وإزالة محتواها على منصة الفيسبوك من خلال تكنولوجيا الرصد الآلي، والسيطرة على تقنية البث المباشر، ومتابعة منصات فيسبوك ويوتيوب وتويتر التي كان لها الدور الملحوظ في الإعلان عن العنف وأيديولوجيا الكراهية ونشر المحتوى المقلق، كما أن السفاح اعترف باعتناقه لمعتقداته عن طريق الإنترنت.
رابعاً: سهولة الحصول على الأسلحة، ومنها الآلية والنصف آلية، وترك المساجد دون حراسات أمنية، وقد قام بنقش أسماء القتلة السابقين الذين ارتكبوا مجازر على تلك البنادق، ونقش أسماء المدن التي نُفذت فيها عمليات القتل وكذلك بعض أسماء المعارك التاريخية.
خامساً: الأمراض العنصرية.. نشر السفاح على المنتدى المتطرف 8chan بياناً عرَّف فيه عن نفسه، وزعم في بيانه المطول الذي كتبه بنفسه أنه قد قام بفعلته هذه لينتقم لمئات آلاف القتلى، الذين سقطوا بسبب من سماهم الغزاة المسلمين في الأراضي الأوروبية على مدى التاريخ، وانتقاما لآلاف المستعبدين من الأوروبيين الذين أخذوا من أراضيهم ليستعبدهم المسلمون، وكتب في واحدةٍ من الصور: "من أجل روثرهام، وألكسندر بيسونيت، ولوكا ترايني"، وقد حُكم على بيسونيت هذا بالسجن أربعين عاماً لقتله ستة مسلمين بالرصاص عام 2017، بعد أن أطلق النار على مسجدٍ في مقاطعة كيبك، فيما يقضي ترايني عقوبة السجن لاثني عشرة عاماً بعد إطلاقه النار على ستة مهاجرين أفارقة في هجوم ذي دوافع عنصرية، وكان السفاح قد هدد بقتل المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل "بسبب ما ارتكبته من إفساد لحياة شعبها وأوروبا ككل"، ولكونها من أصول غير ألمانية، وليست من العرقية البيضاء، منتقدا مواقفها من اللاجئين في أوروبا، كما تعاني نيوزيلندا كغيرها من انتشار جماعات اليمين المتطرف، والتيار القومي المتشدد، وتنامي ظاهرة الإسلاموفوبيا، وتتابع الهجمات والتعرض للمضايقات، واستلهام الفكر من خطاب البابا أوربان الثاني زمن الحروب الصليبية عام 1095 للميلاد، وجاء تشغيل أغنية إبادة الإنسان "تخلص من الكباب" أثناء مجزرة المسجدين بمثابة تكرار للأغنية الصربية الذائعة في منتصف التسعينيات، والمطالبة بحرب إبادة للمهاجرين لأوروبا، ولذلك لا غرابة حين نقش أسماء معارك قديمة على أسلحته، في إسقاطات تاريخية تشير إلى معارك سالفة مثل حصار عكا 1189، ومعارك الدولة العثمانية فيينا 1863 ومعركة شيبكا 1877، وكتب أيضاً اسم فيليكس كازيميرز بوتوكي، وهو عسكري بولندي في القرن السابع عشر، وشارل مارتيل وهو قائد عسكري فرنسي برز في القرن الثامن قائدا لمعركة بلاط الشهداء، كما نشر تارانت مقالاتٍ عن التطرف والتعددية وقال في بيانه: "يجب علينا مواجهة الغزاة"، وزعم بأنه ليس نازياً أو معادياً للسامية، معترفا باعتناقه لمعتقداته عن طريق الإنترنت بهدف الانتقام من الغزاة على مر التاريخ، والثأر من أجل إبا أكرلوند، وهي الطفلة التي كانت تبلغ الحادية عشرة من عمرها عندما قُتلت في هجومٍ إرهابي وقع في استوكهولم عام 2017.
سادساً: العقوبات غير الرادعة، وقديما قيل: من أمن العقوبة أساء الأدب، فالعقوبات لا تشكل رادعا يمكن الاعتماد عليه، وكمثال على العقوبات المخففة الحكم الصادر على اندرس بريفيك الذي قام بهجوم النرويج عام 2011، وتسبب في قتل 70 ضحية، فقد حكم عليه بالسجن لمدة 21 عاما بدأت في عام 2012، ومن هنا نتساءل ماذا لو كانت العقوبة هي الإعدام لأمثال هؤلاء؟ هل كان تارانت ليتجرأ على فعل جريمته وإهدائها لصديقه الميت؟!
سابعاً: الإلهام الشعبوي، وهو ما يستحق الوقوف عنده مليا لأنه يمثل برأينا عنصرا مهما لا يمكن تجاهله، فتحول رئيس أكبر قوة اقتصادية وعسكرية في العالم إلى مصدر إلهام للتطرف الشرير يمثل حالة خطرة من اختلال التوازن الأخلاقي العالمي، فبينما تدعي الولايات المتحدة المحاربة في سبيل الديمقراطية، وتأخذ خارجيتها على عاتقها مهمة تقييم حقوق الإنسان في دول العالم بشكل منتظم، يعلن مجرم إرهابي مثل برينتون تارانت إعجابه بالرئيس الأميركي واعتباره ملهما له، أضف إلى ذلك أن الإدانة الباهتة من قبل البيت الأبيض لهذا الهجوم بصياغة: "نعرب عن حزننا لفقدان الأرواح وندين هذا العنف"، تشكل إشارة خطيرة لمتطرفي العالم وتشجيعا مبطنا للإسلاموفوبيا. وجاءت ملهمته كانديس أوين الناشطة السياسية المحافظة والداعمة لترامب في المركز بعد ترامب من حيث التأثير فيه، إلى حد أنها جعلته يعتقد باستخدام العنف ضد الخنوع، وشاركته في تقديس ترامب بوصفه قدوة مشتركة بينهما، كما توجهت بانتقادها للحزب الديمقراطي، وتخوفت كثيرا من مقولة القذافي حول تحول أوروبا إلى قارة إسلامية خلال عقود من الزمن، وهنا نتساءل ماذا كانت ردة فعل ترامب الشخصية عندما سمع عن إعجاب تارانت به؟ هل خجل من نفسه أم على النقيض من ذلك؟!
ثامناً: القياصرة الجدد وهم سياسيو الوطن العربي والعالم الإسلامي، فقد أطلق هؤلاء تحذيرات وفي عدة مناسبات من الجاليات والمساجد في الغرب.
تاسعاً: التاريخ وصراع العرقيات.. تقع نيوزيلندا جنوب غربي المحيط الهادئ، وهي عبارة عن عدد كبير من الجزر المعزولة، ومن بينها جزيرتان كبيرتان نورث أيلاند وساوث أيلاند، وعدد السكان خمسة ملايين، ومعظمهم أوروبيون، والسكان الأصليون من عرقية الماوري الذين يشكلون نحو 15 في المئة من السكان، و يبلغ عدد المسلمين في نيوزيلندا 47 ألف شخص، وعلى الرغم من ضآلة تعداد الأقلية المسلمة فإنها تعد واحدة من أكثر الأقليات نشاطا، كما أن أعضاءها من أكثر المهاجرين اندماجا في المجتمع وطلبا للعمل، و قد قدم المسلمون الأوائل إلى نيوزيلندا من دول جنوب شرق آسيا وشرق أوروبا بداية القرن العشرين، وزادت الأعداد بفعل الهجرات الوافدة للمسلمين الهنود من جزر فيجي المجاورة، وأسلم على أيديهم عدد كبير من النيوزيلنديين، وقدمت موجات أخرى من بلدان المشرق والمغرب العربي، بطريقة مطردة، ويعتبر أهل نيوزيلندا أن الماوريين؛ سكان البلد الأصليين، "محظوظين" لاستعمارهم من قبل الأوروبيين، وتعيش في نيوزيلندا قوميات الباسيفيكيين والآسيويين، والذين يدفعهم الازدراء لمقابلته بمثله، لأن عقيدة العنصريين البيض تقوم على الغطرسة والجهل وتجاهل ثقافة الأقليات، خلافا لمفاهيم الماوريين عن اللطف والضيافة والكرم ومراعاة الآخرين.
عاشراً: حب الشهرة.. وقد ضمن موقع منتدى "شان 8" العنصري شهرة لكثير من المتطرفين الذين منهم السفاح تارانت، والذي لم يخف ندمه بل تمنى لو ازدادت الهجمات باسم التنوع، وحين نزل من سيارته بسلاحه الشخصي في يده وآخر في جعبته، مشى تجاه هدفه ليس كمشهد من ألعاب الشبكة العنكبوتية بل في مشاهد حقيقية تبدأ بإطلاق النار على أنغام كان يسمعها خلال هجومه على المصلين أثناء صلاة الجمعة، ليطلق النار عشوائياً على كل من وجده داخل المسجد.