في نيسابور، أواخر القرن الحادي عشر ميلادي، باغت عمر الخيّام صديقاً قديماً لم يلتقه منذ عشرين عاماً "بين الخمرة والنساء والكتب"، بدا شخصاً غريباً أنهكه السير والمعرفة إلى درجة أن الخيّام لم يعرفه.
في تلك الليلة، تلك الليلة التي سيكون لها ما بعدها، تذكرا آخر لقاء لهما بصحبة صديقهما الثالث نظام المُلك، وبحثهم ثلاثتهم المُضني عن المعرفة وعن فهم مغاير لمعنى العالم وفي لحظة من الحوار المُحتدم والعميق حول الوجود والعدم، وعما إذا كان من المتعذر تغيير العالم من عدمه بعد أن ولّى زمن الأنبياء.
نطق الخيام على سبيل المزاح والتهكم بعبارة زورباويّة لم يُقدّر وقعها على صديقه: "إن الشعب مسرور بحياته البسيطة، وإن أنت لم تمتلك المفتاح الذي تفتح له باب الفردوس في حياته، يكون من الأفضل أن تعدل عن أية فكرة بأن تصبح نبياً".
"فردوس على الأرض محاكاة للفردوس السماوي"، يا لها من فكرة مُدهشة! ومن ليلتها وصديق الخيام، وقد أخذته الفكرة الجهنمية كل مأخذ، جن جنونه. ومن تلك الليلة النيسابورية الثملى جاءت فكرة "آلموت".
قلعة سحرية وغامضة لرجل مريض بجنون العظمة توهم في لحظة مفصلية من التاريخ أنه نبي، وانساق خلفه تاريخ لا يزال مستمرا بيننا ومن حولنا.. إنه الآن وهنا .. إنه حسن الصبّاح زعيم ما عرف تاريخياً بفرقة "الحشاشين" الذي كان يصف نفسه بأنه "حالم مُرعبٌ بجهنم" صديق الشاعر الجميل الذي طالما نصحه:
"أنت ثمل، أنت عاشق؟ متّع نفسك
المداعبات والخمرة تودي بك؟ لا تندم على ذلك
ماذا سيحصل لنا بعد؟ لا تبال أبداً بذلك
ما تكون؟ شيء لن تعرفه إطلاقاً. إذاً بصحتك!
عندما انتهيت من قراءة رواية "آلموت" للكاتب اليوغسلافي فلاديمير بارتول (1903 - 1967) والتي كتبها في الأصل بلغته السلافية الأم، بترجمة من عيار "الخيانة الذهبية" لفاطمة النظامي، وجدتني أنسج حكاية صغيرة عن هذه الحكاية الكبيرة مدهوشاً بالمعمارية الفنية لهذا العمل الفذ وبنائه النفسي لشخصية البطل "الحسن" نزولاً وصعوداً في أعماقه المضطربة.
هذا الذي "حملته الأسطورة تحت جناحيها"، على حد تعبير الكاتب في نهاية الرواية، كان قد حشر في قلعته حكيماً إغريقياً ومعلم دين ودعاة لمذهبه وقادة عسكريين وبستانياً وموسيقياً وخصيان وجواري وقيان رضعن "فن الهوى" من قبل معلمات مثقفات وفتيان علمهم فن الموت، دعاة صارمين من أجل مبدأه وحده، من أجل "العقيدة الأسمى". أدخل الصبّاح كل هؤلاء جنّته.
فتى مسجى بفعل حشيشة الكيف - القنّب الهندي، يصحو رويداً رويداً كما من حُلم، فيجد نفسه أمام ما يشبه الحورية العارية، وهو الذي لم يلمس أو حتى يرى ولسنوات قاسية من التدريب العنيف والدموي طيف أنثى داخل أسوار القلعة الرهيبة:
"من المستحيل أن تتخيّل زخرفاً بمثل تلك الروعة. كل شيء في ذلك المكان كان من الذهب والفضة، أسرّة مغطاة بسجاد أكثر طراوة من طحلب الخشب. أرائك يحسب المرء نفسه يغوص فيها، مآكل بنكهة إلهية تقدم بسخاء. خمر لذيذ يمنحك الصفاء دون أن يجرّدك من وعيك. بالمختصر: كل ما نزل وصفه في القرآن الكريم وحوريات يا أطفالي!".
وماذا بعد ذلك؟ يمكن للفدائي الذي يصف جنة الصبّاح بمثل هذا الشغف والشوق واللهفة لرفاقه أن يغتال ببساطة الشخصيات الكبيرة منتحراً: "أزفت الساعة لتنفيذ أمر سيدنا. الحوريات تنتظرني".
بعد أن يكون قد بلع حبة الإنتشاء لإيمانه المطلق بجنة أجمل في السماء وما عليه سوى الامتثال لـ"نبي الموت" وسيجد كل يوم عذراء هناك في الأعالي حيث لم تفت"شيخ الجبل" حتى هذه التفاصيل الصغيرة والتي علمته إياها عشيقته الأولى أباما "التي نالت شهرة من كابول إلى سمرقند"، معلمة فن الهوى للصبايا:
"كانت في الواقع تعرف سر الحب الذي يبدو بسيطاً جداً، أما عندما لا يكون المرء على اطلاع بذلك فإنه يظن أن بين ذراعيه عذراء طاهرة طهارة عذراوات الفردوس: مفتاح هذه المعجزة هو خليط من مواد معدنية، بعض من محلول له خاصية في تقليص المخاطيات عند استعماله بمهارة يحمل الفرد على الاقتناع بأنه يصل فتاة بكراً، ولو كان هذا غير صحيح".
لكن البطل كما يصوّره بارتول حين كان يخلو إلى نفسه يتعذب من فكرته المُعذِبة ويتلوى كأفعى على الفراش فيصحو مفزوعاً من كوابيسه ليذهب لملاقاة مريم، عشيقته المفضلة وكاتمة أسراره التي إنتحرت لاحقاً بعد ان رأت فيه "جلاداً حقيقياً.. وحشاً على هيئة إنسان":
"إبيقوروس علّم بحكمة أن الهدف الفريد للحياة هو طرد الألم والعذاب. باحثاً قدر المستطاع عن اللذة والرفاه الشخصي، من سيكون له نصيب في سعادة كبرى غير هؤلاء الفدائيين الذين أسكناهم الجنة! في الواقع ليتني أنا نفسي أكون مكانهم! آه، ليتني أستطيع أن أقتنع بحقيقة نِعَم هذه الرياض الفخمة والتمتع بها".
صورّ بارتول زعيم "الحشاشين" كأنه "مستبد عادل" إلى درجة أنك تكاد تتعاطف معه في بعض الأحيان، وأن وجوده "شر لا بد منه" وسط الاضطرابات السياسية التي كانت تعصف بالعالم الإسلامي قبل ألف عام. ما أشبه اليوم بالبارحة.
يضفي بارتول مسحة إنسانية عليه، وإن انطوت شخصيته في العمق دكتاتور إلا أن الروائي يكاد يخدعنا. هذا الذي، وإلى جانب صفته ككاتب، كان بيولوجياً مولعاً بالفراشات والأديان، صوّر لنا الصبّاح على هيئة فيلسوف "عدمي" يبحث عن خلاصه الشخصي من خلال تدمير العالم واغتيال صديقه القديم الوزير نظام المُلك.
هكذا تكلم حسن الصباح!
اقرأ أيضاً: الزمن في القطار