جيمس إنسور/ Getty
04 اغسطس 2020
+ الخط -

بعد مرور أكثر من 70 عاماً على رحيله، أعلن متحف الرسام البلجيكي جيمس إنسور، افتتاح أبوابه من جديد في مدينة أوستند الساحلية، بعدما خضع المبنى العتيق لتجديدات ضخمة على مدار السنوات الثلاث الماضية، وصلت تكلفتها إلى 3.6 ملايين يورو. كذلك خُصص القطاعان، الثقافي والسياحي للإقليم الفلمنكي عام 2020، ليكون عام الاحتفاء بجيمس إنسور، وأطلقت المدينة حملة على تطبيق "تيك توك" الشهر الماضي لجذب الأجيال الشابة إلى أعمال الرائد البلجيكي، ليحظى الحساب الجديد باهتمام كبير.
لم يولِ جيمس إنسور (1860 - 1949)، المولود لأب بريطاني وأم بلجيكية، أي اهتمام حقيقي بالدراسة الأكاديمية في شبابه، بل ترك المدرسة في سنّ الخامسة عشرة، ليبدأ التدرب على أيدي رسامين محليين، ثم التحق بأكاديمية الفنون الجميلة في بروكسل لثلاث سنوات، نجح بعدها في عرض أعماله لأول مرة وهو في العشرين من عمره عام 1881، ليمتلك منذ ذلك التاريخ مرسمه الخاص في علّية منزل والديه بمسقط رأسه في أوستند، وهو البيت ذاته الذي تحول منذ رحيله إلى متحف على رأس أشهر المزارات السياحية للمدينة غربي بلجيكا.

السخرية الجريئة
في السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر، قوبلت أعمال إنسور بالرفض في أكثر من محفل تشكيلي محلي ودولي، باعتبارها فاضحة وجريئة، خاصة حين أثارت لوحته الشهيرة "دخول المسيح إلى بروكسل" غضب النقاد والفنانين عام 1889، وحُكم عليها بالبقاء سجينة جدران مرسمه الخاص في بيته 40 عاماً، حتى عُرضت للمرة الأولى عام 1929. عرف إنسور حينها أن سخريته السوداء من الموقف السياسي لبلاده آنذاك، كانت وراء غضب الفنانين من لوحته الجريئة، حيث ملأ اللوحة بحشد ضخم في كرنفال لوني يدخل فيه السيد المسيح إلى بروكسل، لكننا لا نرى أي اهتمام لهذه الحشود بوجود المخلّص بينهم، بل نشاهد عشرات الوجوه التي ترتدي كلها أقنعة كرنفالية مضحكة وجماجم مخيفة، تنظر من خلف أقنعتها إلى عين كل من يشاهد اللوحة، تاركين المسيح خلفهم على حماره، فيما تحيط بوجهه هالة القداسة.
في هذا التكوين اللوني من السخرية العبثية، كان من السهل على كل عين تشاهد اللوحة الضخمة (452 سم عرضاً و252 ارتفاعاً)، التعرف داخل الحشد إلى كثير من الشخصيات السياسية البلجيكية والتاريخية المعروفة آنذاك، وحتى من أفراد عائلة إنسور، وإنسور الذي رسم نفسه وسط الحشود من دون قناع. وربما هذه التفصيلة هي التي أثارت غضب النقاد من اللوحة، فكل من فيها من شخصيات سياسية يرتدي الأقنعة الهزلية المضحكة أو المخيفة، بمن فيهم ملك بلجيكا وغيره من السياسيين الذين خرجوا لاستقبال المسيح، لكننا نرى الحشود كلها ترتدي أقنعة باستثناء اثنين فقط، هما المسيح وإنسور، الذي ينظر هو الآخر بصلافة إلى عين مشاهد اللوحة!

آداب وفنون
التحديثات الحية

الأقنعة الكرنفالية
على الرغم من أن إنسور لم يكن مؤمناً، إلا أنه لعب في كثير من لوحاته على فكرة المخلّص، وعذابات السيد المسيح بالمفهوم التقليدي للمسيحية، ولكن بكثير من السخرية السوداء التي صعّدت من الغضب عليه. بدأ هذا الولع الساخر في أعمال إنسور يتشكل في السنوات الأربع بين 1888 و1892، وهو ما فسره إنسور لاحقاً على أنه كان نتيجة لـ"اشمئزازه الشخصي تجاه وحشية العالم".
قبل هذه السنوات الأربع، كانت تطغى على أعمال إنسور المبكرة مشاهد واقعية بأسلوب سوداوي كئيب، لكن ما لبثت لوحاته أن أُضيئت لاحقاً بآلاف الأقنعة الهزلية، التي استوحاها الفنان من متجر هدايا وأقنعة كانت تمتلكه والدته وعمته، وله شهرته وسط رواد كرنفال أوستند السنوي. وبسبب من هذا المتجر الغريب، أُغرم إنسور بالأقنعة والهياكل العظمية والجماجم والثياب المخيفة للأشباح في لوحاته الناضجة، لذلك حافظ المتحف حتى اليوم على المتجر كما كان عليه قبل مئة عام.
في العقد الأول من القرن العشرين، تضاءل إنتاج جيمس إنسور الفني بشكل ملحوظ، واكتفى بعزلته في مدينته الساحلية، لكنه ركز بشكل متزايد على الموسيقى التي لم يدرسها، إلا أنه كان مرتجلاً موهوباً، وأصر إنسور على البقاء في أوستند خلال سنوات الحرب العالمية الثانية، على الرغم من خطر القصف المستمر على المدن البلجيكية، لكن إنسور نجا من صواريخ الحرب ليحيا في الظل منعزلاً في العقود الأخيرة من حياته، بعدما خفتت قريحته الفنية ولم يأتِ بجديد، حتى توفي في 19 نوفمبر 1949، ليُعترَف بمنجزه الفني لاحقاً، بوصفه أحد كبار الساخرين والمخربين المجددين في القرن العشرين.

يوفر المتحف لزواره دليلاً صوتياً بخمس لغات لمتابعة أقسام المتحف الخمسة، في جولة صوتية كلاسيكية تعرِّف بالفنان وتاريخ نشأته


يتألف المتحف بعد تجديده من المنزل الأصلي الذي ولد ومات فيه جيمس إنسور، والذي ورثه عن أمه وعمته لاحقاً، إضافة إلى مركز خبرة تفاعلي في مبنى مجاور، جرى شراؤه عام 2016 لضمه إلى البيت الأصلي، ويوفر المتحف لزواره دليلاً صوتياً بخمس لغات لمتابعة أقسام المتحف الخمسة، في جولة صوتية كلاسيكية تعرِّف بالفنان وتاريخ نشأته، إضافة إلى جولة عائلية ذات طابع أكثر مرحاً، حيث يستقبل الزوارَ دليلٌ في صورة خادم، يروي النوادر المضحكة عن إنسور وعلاقاته بأصدقائه وأقاربه.
تشكلت المساحات الخمس للمتحف بعد تجديده من الغرفة الأولى، التي تظهر الحياة اليومية للفنان في عزلته الساحلية، حيث كان يقرأ ويكتب. فيما ضمت الغرفة الزرقاء، التي اتخذها الفنان مرسماً له، عدداً من لوحاته المعروفة ورسوماته غير المكتملة، حيث رسم إنسور لوحته الأشهر "دخول المسيح إلى بروكسل" عام 1888.

المساهمون