جنيف السوري والغموض المقصود

18 مارس 2016
+ الخط -
أخرجت الهدنة العسكرية في سورية من النقاش عملية الخلط بين المستويين العسكري والسياسي، فحيّدت مطالب النظام المستمرة في ضرورة إعطاء الأولوية لمحاربة الإرهاب، إلا أن الهوامش الكثيرة والعبارات الفضفاضة في الوثائق الدولية حول التسوية السياسية أعطت فسحة واسعة للنظام للتحرّك فيها. ولم يتم الفصل في ثلاث مسائل رئيسية بوضوح، لا في قرارات الأمم المتحدة، وبيانات مجموعة العمل الدولية الخاصة بسورية (جنيف 1، بيانا فيينا، بيان ميونخ).
شكل الحكم: تؤكد المعارضة على إنشاء هيئة حكم انتقالية ذات صلاحيات تنفيذية كاملة، فيما يصرّ النظام على حكومة وحدة وطنية، والفرق أن منظومة الحكم في الحالة الأولى تكون مطلقة الصلاحيات ومرجعيتها هي نفسها. وفي الحالة الثانية، تكون صلاحياتها محدودة، وفقاً للدستور الحالي الذي يصر عليه النظام، ومرجعيتها تتبع الرئاسة.
في بيان جنيف لعام 2012، جرى التأكيد على هيئة حكم انتقاليةٍ، ذات صلاحيات تنفيذية كاملة، ثم جاء القرار الدولي 2118 أواخر 2013 ليؤكد ذلك في تأييد الفقرة 16 إنشاء هيئة حكم انتقالية، تمارس كامل الصلاحيات التنفيذية، لكن بيان فيينا الأول في 30 أكتوبر/تشرين الأول الماضي يتراجع، لأول مرة، عن هيئة الحكم هذه، واستعاض عنها بتشكيل حكومة ذات مصداقية وشاملة وغير طائفية، بدلاً من هيئة حكم انتقالية. ثم جاء بيان فيينا الثاني في 14 نوفمبر/تشرين الثاني، ليؤكد على "بيان جنيف 1" والقرار 2118 وبيان "فيينا 1"، لكنه لا يتحدّث عن هيئة حكم ولا عن حكومة، وإنما عن إقامة حكم شاملٍ ذي مصداقية وغير طائفي. وجاء قرار مجلس الأمن 2254 في 18 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، ليشرعن بيان فيينا الثاني، حيث أكد، في الفقرة الرابعة، على إقامة حكم ذي مصداقية يشمل الجميع. وزاد من تعقيد المسألة أن القرار 2254 تبنّى مخرجات "جنيف 1" وفيينا 1/2، وبيان ميونخ، ما جعل كل طرف يتمسك بما يراه لصالحه: تتمسك المعارضة بجنيف الأول، ويتمسك النظام بمخرجات "فيينا 1".
الانتخابات: لها شقان. الأول متعلق بتاريخها، هل تكون ضمن المرحلة الانتقالية، أم في نهايتها؟ بحيث تشكل نهاية لمرحلة انتقالية، وبداية لمرحلة سياسية جديدة. الثاني: هل تكون على مستوى البرلمان، أم على مستويي البرلمان والرئاسة؟ لا تسعف الوثائق الدولية في توضيح المسألة، وجاءت حمّالة أوجه بشكل مقصود، فالقرار الدولي 2254 الذي يشكل المرجعية الأساسية للعملية السياسية لم يوضح المسألة. وبناء على الفقرة الرابعة أيضاً ".. يعرب مجلس الأمن كذلك عن دعمه انتخابات حرة ونزيهة تجري، عملا بالدستور الجديد، في غضون 18 شهراً تحت إشراف الأمم المتحدة، بما يستجيب لمتطلبات الحوكمة، وأعلى المعايير الدولية، من حيث الشفافية والمساءلة". لم يوضح القرار، ولا الوثائق السابقة (فيينا 1/2، ميونخ) ما إذا كانت الانتخابات تشمل البرلمانية والرئاسية معاً أم أحدهما. والمرة الوحيدة التي تم الحديث فيها عن هذه النقطة كانت تصريحات مبعوث الأمم المتحدة، ستيفان دي ميستورا، حين قال إن انتخابات رئاسية وتشريعية ستجري في سورية بإشراف الأمم المتحدة في غضون 18 شهراً.
مصير الأسد: أكثر المسائل غموضاً، لأن جميع القرارات والتفاهمات الدولية لم تتطرّق إليها، وتركتها مؤجلةً إلى ما بعد الاتفاق على تفاصيل المرحلة الانتقالية (نظام الحكم، الدستور، الانتخابات). وليس معروفاً متى ينتهي دور الأسد، في بداية المرحلة الانتقالية أم في نهايتها؟ وماذا عن صلاحياته، إذا بقي في الفترة الانتقالية؟ ثم ما هي الآلية التي سيخرج بها من المعادلة السياسية؟ وهل سيشارك في الانتخابات؟ لا أجوبة على هذه الأسئلة. لكن، يبدو من التوجهات الدولية على الأقل أن الأسد سيبقى إلى ما بعد الفترة الانتقالية، وسيشارك، على الأغلب، في الانتخابات، وتصريح دي ميستورا واضح، حيث قال، أخيراً، إن السوريين هم الذين يقرّرون مصير الأسد، ولا تعني كلمة مصير هنا عن طريق أصوات المدافع، وإنما صناديق الاقتراع.
سيؤثر هذا الغموض في الوثائق الدولية سلباً على مسار المفاوضات، في ظل رغبة المعارضة في إجراء تغيير سياسي كبير وسريع، يمهد لانتقال ديمقراطي، على عكس النظام الذي يسعى، في كل مرة، إلى التهرّب من الاستحقاق السياسي.