نظرة إلى الانتخابات الإيرانية
باستثناء مسعود بزشكيان (نائب مدينة تبريز في البرلمان)، جميع المُرشّحين الآخرين لانتخابات الرئاسة الإيرانية من المحافظين (رئيس مجلس الشورى محمد باقر قاليباف، والأمين العام السابق لمجلس الأمن القومي الإيراني عضو مجمع تشخيص مصلحة النظام سعيد جليلي، وعمدة طهران علي رضا زاكاني، ووزير العدل الأسبق مصطفى بور محمدي، والنائب السابق والرئيس المحافظ لمؤسسة الشهداء والمحاربين القدامى أمير حسين قاضي زاده هاشمي). هل هي مصادفة أن يكون خمسة مُرشّحين من أصل ستّة من المحافظين؟ وهل هي مصادفة أنّ غالبية الخمسة هم من جبهة بايداري، أكثر القوى السياسية تشدّداً في إيران وقرباً من المرشد علي خامنئي؟ وهل هي مصادفة أن يستبعد مجلس صيانة الدستور مرشّحي التيار الإصلاحي (رئيس مجلس الشورى الأسبق علي لاريجاني، وإسحاق جاهنجيري نائب الرئيس الإيراني الأسبق حسن روحاني، ومحافظ البنك المركزي السابق عبد الناصر همتي، ووزير النقل مهرداد بذرباش، ووزير الثقافة محمد مهدي إسماعيلي، وغيرهم)؟ وهل هي مصادفة، أيضاً، أنّ المُرشّح السادس من خارج البيئة المحافظة (مسعود بزشكيان) اختير لأنّ فرص وصوله إلى الرئاسة معدومة.
ستكون نتائج الانتخابات الإيرانية الرئاسية معروفة في مستوى التيّارات والاتجاهات السياسية ومجهولة في مستوى الشخوص
واضح أن القيادة الإيرانية تسعى من ذلك إلى ضبط إيقاع العملية الانتخابية، بحيث تنتهي إلى ما انتهت إليه في آخر انتخابات رئاسية، وجلبت شخصاً لا يعدّ من البيت المحافظ فحسب، بل من التيّار المتشدّد فيه، والأقرب إلى مرشد الجمهورية. هناك أسباب عدّة تفسّر تضييق دائرة المرشّحين للانتخابات، أهمّها أن من شأن وصول رئيس إصلاحي داعم ذي توجهات ليبرالية اجتماعية وسياسية أن يعيد آمال شرائح من المجتمع بإمكانية تحقيق انفتاح تجاه الحرّيات، ويؤدي إلى تصادم مع بنية النظام. ومن هذه الأسباب، أيضاً، مسألة انتخاب مرشّح لخلافة المرشد خامنئي، وهذه مرحلة تتطلّب تماسكاً قوياً في داخل النظام، وتقوية الجبهة التقليدية، بحيث لا يسمح لأيّ تيّارات أو قوى أو شخصيات بالتأثير في هذه العملية. ويمكن القول إنّ عملية توسيع التيار المحافظ التقليدي ليخترق مؤسّسات الدولة كافّة بدأت مع آخر انتخابات تشريعية، إذ وصلت شخصيات راديكالية إلى البرلمان بدعم مباشر من السلطة. وثمّة سبب ثالث مُهمّ يتعلق بالبيئة الخارجية، فإيران تمرّ في مرحلة مُهمّة، سواء في صعيد الانفتاح الجزئي مع الولايات المتّحدة، أو في صعيد التوتّر الحاصل في المنطقة منذ أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وهي لا تتحمّل شخصيات ذات توجّهات سياسية، في مستوى التكتيك لا في المستوى الاستراتيجي، بما يعيد التذكير بتجربتَي محمد جواد ظريف ومحمود أحمدي نجاد؛ يجب وصول رئيسٍ يشابه في مواصفاته الرئيس السابق إبراهيم رئيسي.
بناءً على ما تقدّم، ستكون نتائج الانتخابات الإيرانية الرئاسية معروفة في مستوى التيّارات والاتجاهات السياسية، ومجهولة في مستوى الشخوص. ولأسباب أخرى تتعلّق بفقدان شرائح من الشعب الأمل بحصول تغيرات في مستوى الداخل (الحرّيات، الوضع المعيشي)، لا يُتوقّع أن تشهد الانتخابات إقبالاً شعبياً كبيراً، وقد بيّنت استطلاعات الرأي وجود شريحة اجتماعية قرّرت مقاطعة الانتخابات، وأخرى مُتردّدة. وفي الحالتين، ثمّة مشكلة في الديمقراطية الإيرانية، فإذا لم تكن العملية الانتخابية بنتائجها تعبيراً عن إرادة الشعب، ستتحوّل صناديق الاقتراع الديمقراطية في شكلها إلى إنتاج أوليغارشيّة (حكم الأقلية) سياسية، لا تعبّر عن عموم رغبة الشعب. يجادل بعضهم أن الديمقراطيات العريقة في الغرب تنتج أوليغارشيّات سياسية عبر العملية الانتخابية، فالأحزاب الفائزة في الانتخابات هي التي تشكّل السلطة التنفيذية، وتُقصي الأحزاب المعارضة، وهنا يستأثر الحزب أو الأحزاب الفائزة بالسلطة وحدها، وتصبح في سلوكها تعبيراً عن توجّهاتها وتوجّهات الفئات الشعبية التي انتخبتها.
لم يكن التراجع في مستويي الليبرالية والمجتمع المدني في إيران، فهذان ضعيفان في الأصل، لكنّ التراجع حصل في مستوى مؤسّسات الدولة
غير أن المقارنة ليست صحيحة في مستويين؛ لا شك أنّ الديمقراطية الليبرالية هي حكم الأغلبية، ولكن بشرط أنّ هذه الأغلبية قد تتحوّل إلى أقلّية في الانتخابات المُقبلة، وتنشأ أغلبية جديدة لا تعبّر عن مصالح الأقلّية، ولكنّها لا تستطيع منعها من الدفاع عن حقوقها الأساسية. في مستوى آخر، عندما تستحوذ أكثرية سياسية على السلطة سنوات طويلة، يترهّل النظام السياسي، وتتراجع الليبرالية، وتضعف المؤسّسات، وتكثر المحسوبية والعلاقات الوشائجية، ولدينا تركيا اليوم نموذجٌ واضح، فبعد إنجازات كبرى حقّقتها في ظلّ حزب العدالة والتنمية، ثمّة تراجع واضح في مستوى الحرّيات والمجتمع المدني وسلطة القانون، فضلاً عن نشوء خطاب شعبوي لدى السلطة والمعارضة.
في إيران، لم يكن التراجع في مستويي الليبرالية والمجتمع المدني، فهذان ضعيفان في الأصل، لكن التراجع حصل في مستوى مؤسّسات الدولة، منها ما يتعلق بالسلطة التشريعية التي أخذت تضمُر شيئاً فشيئاً، مع انتشار هيئات غير منتخبة (المجلس الأعلى للثورة الثقافية) تفرض سلطتها من أعلى، ومنها ما يتعلق بالمركزية السياسية الشديدة، الممثّلة في شخص المرشد، الذي يعلو العملية السياسية، لتنشأ حالةٌ سياسيةٌ خاصّةٌ في إيران؛ فيزيقا سياسية (الانتخابات، تقاسم السلطات) وميتافيزيقا سياسية، منها تصدر الأوامر السياسية.