انتخابات في سورية: سلوك النظام والجمهور
ماذا يعني أن تُجرى انتخابات في ظلّ نظام مُغرِقٍ في التسلّط والاستبداد؟ هل تُغيّر الانتخابات الشكلية من واقع الحياة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، في البلد؟... الجواب، لا، وهو ما يدركه الجميع، بمن فيهم المشاركون في هذه المَهزَلة. قد يظنّ بعضهم أنّ الانتخابات التشريعية في سورية لا أهمّية لها بالنسبة إلى النظام، وأنّها مُجرّد ديكور سياسي ليس إلّا، وهذا خطأ ناجم عن عدم قراءةٍ كافيةٍ لآلية تفكير الأنظمة الاستبدادية، مثل النظام السوري.
ثمّة مستويان للمسألة: خارجي وداخلي. في البعد الأول، قد يستغرب بعضهم أنّ الأنظمة الاستبدادية هي الأكثر إدراكاً لماهية الديمقراطية وتبعاتها، وهذا ما يجعلها حريصةً جدّاً على الإمساك بالسلطة، وعدم تقديم أيّ تنازلات سياسية ستنتهي بالضرورة، إن حصلت، إلى تغيير المشهد السياسي في البلاد ولو بعد حين. هذا السبب بالتحديد هو الذي جعل النظام السوري يقرّر، منذ بداية الثورة، اتخاذ طريق الأمننة والعسكرة للثورة؛ لقد أدرك منذ البداية، حتّى قبل اندلاع الثورة، أنّ أيّ تنازل سياسي سيُتبع بالضرورة بتنازلات أخرى تؤدّي إلى تغيير في شكّل النظام، ثمّ في بنيته بالضرورة، حتى لو كان هذا التغيير ديمقراطية التفويض، أو ديمقراطية استبدادية، كما في أنظمة ديمقراطية كثيرة هجينة في عالمنا المعاصر.
تُقدّم الانتخابات صورةً أمام المجتمع الدولي بأنّ ثمّة قاعدة شعبية لهذا النظام، وأنّ هناك عمليات سياسية تجري في أرض الواقع
في حالة الديمقراطيات الهجينة التي تحدُث فيها انتخابات، وينتج منها تغيّر في شكل السلطة، مع بقاء بُنى النظام الاستبدادي قائمة، حدث تحوّل في بُنى الدولة والسلطة، وتغيّرت فيها علاقات السلطة بالمجتمع (مقارنة بين النظامين، السوري مثلاً والمصري زمن حسني مبارك، ثمة فارق موجود). من هنا، تميّز الأنظمة الاستبدادية الفرق بين دولة لا تجرى فيها انتخابات نهائياً، ودولة تُجرى فيها انتخابات شكلية. في الحالة الأولى، النظام ملكي ـ قبلي ـ عشائري، تنتج السلطة فيه من آليات عضوية ضمن الجماعة. وفي الثانية، مُجرّد حصول انتخابات (مهما كانت صفتها) ستُصنِّف الدولة خارج الأنظمة الملكية ـ القبلية، ضمن الأنظمة الجمهورية، بغض النظر عن ترتيب هذا النظام الجمهوري في سلّم الديمقراطيات. على سبيل المثال، حسب منظمة فريدوم هاوس (بيت الحرّية)، صُنّفت سورية عام 2021 في المُعدّلات الأدنى في العالم من حيث النزاهة والديمقراطية والحرّيات المدنية والحقوق السياسية. ومع ذلك، هذا فارق مهّم بالنسبة للأنظمة، وعندما يحدُث ضغط دولي على هذه الأنظمة، كالنظام السوري، فالحديث سيجري بشأن توسيع مساحة الحرّيات والمشاركة السياسية، ولن يجري الحديث عن بناء نظام سياسي جديد، ولعلّ ما جاء في ورقة الاثني عشر بنداً للمبعوث الأممي السابق إلى سورية ستيفان دي ميستورا، حول الحكم الرشيد، ما يُؤكّد ذلك.
في المستوى الخارجي أيضاً، تُظهِر الانتخابات التشريعية في الأنظمة الاستبدادية وجود مشاركة حقيقية، سواء على صعيد المُرشّحين أو على صعيد المشاركة الشعبية، وإن كانت هذه المشاركة قليلةً مقارنةً بعدد السكّان، ولا تعكس حقيقة مواقف الأفراد ورغباتهم السياسية، لكنّها تُقدّم صورةً أمام المجتمع الدولي بأنّ ثمّة قاعدة شعبية لهذا النظام، وأنّ هناك عمليات سياسية تجري في أرض الواقع. هذه السردية السياسية كلّها هي سردية النظام السوري، وهو مقتنع بجدواها.
الأنظمة الاستبدادية الأكثر إدراكاً لماهية الديمقراطية وتبعاتها، ما يجعلها حريصةً على عدم تقديم أيّ تنازلات
على الصعيد الداخلي، ثمّة مستويان: الأول مُتعلّق بالنظام، والآخر مُتعلّق بالجمهور الشعبي. بالنسبة للنظام، تُشكّل الانتخابات التشريعية عملية تدوير للمصالح في قاعدة مُؤيّديه، سواء في المستوى الشعبي أو في مستوى النُخَب الاقتصادية، فتحوّل مجلس الشعب، لا إلى مُؤسّسة للتشريع والتمثيل السياسي الشعبي، ولا لإصدار القوانين انعكاساً لإرادة شعبية، بل إلى مُؤسّسة لتكريم المُؤيّدين للنظام، عبر منحهم مكانةً اجتماعية، ونفوذاً من نوع ما، ومكافآتٍ مادّية بحكم منصبهم. وقد وصل الأمر إلى تحويل مهامّ أعضائه، في جزء منها، أداةً رخيصة بيد أجهزة الأمن وبعض المُتنفّذين، بحيث يتحوّل المجلس أداةً لفضح بعض الفساد، باتهامات به تُوجّهها السلطة العليا لإسقاط بعض الرموز، بحُجّة أنّ الأمر قد انفضح وأصبح على طاولة مجلس الشعب. الجديد بعد الثورة أنّ المجلس أصبح يضمّ مُرتكبي جرائم (قادة مليشيات) تعبيراً عن امتنان النظام لهم.
بالنسبة إلى الجمهور المُطّلع على الأرقام في جديد انتخابات مجلس الشعب أخيراً، يرى أنّ عدد طلبات الترشّح للانتخابات المقبولة وصل إلى 9194 مُترشّحاً، بينما كان عدد المُترشّحين في الدورة الماضية، قبل أربع سنوات، 1658 مُترشّحاً، في ارتفاع ملحوظ وكبير للغاية عن جميع المرّات السابقة. لا يمتلك كاتب هذه السطور تحليلاً دقيقاً لهذه الظاهرة، فإمّا أنّ ذلك حدث بترتيب من النظام لتقديم صورة توحي بأهمية العملية الانتخابية، ومدى التأييد الشعبي له، أو أنّه فعل إرادي حرّ من الأفراد للحصول على مكانة في المجتمع. كما تُلاحظ قوّة المشاركة لأصحاب المال (رجال أعمال، ومهرّبون، وتجّار أزمات، وشخصيات سابقة في النظام لديها ثروات) في المدن الرئيسية. تشير هاتان الملاحظتان إلى وجود فئة اجتماعية لا تستطيع أن تعيش خارج عباءة النظام، لقد برمجت نفسها أو بُرمِجت لتكون جزءاً من النظام وعلائقه. الوجاهة الاجتماعية والنفوذ لا يزالان هدفين رئيسيين ضمن أولويات فئات واسعة في المجتمعات العربية بشكل عام، والمجتمع السوري بشكل خاص، والسبب أنّ غياب الفضاء المدني والسياسي الحرّ عقوداً عديدة قضى على المبادرات الفردية وعلى الإبداع الفردي، وأصبح التعبير عن الذات في الفضاء الاجتماعي محصوراً في بوابة النظام.