وبسرعة لافتة، أطلق الجامعيون والصحافيون، المعتنون بظواهر الإرهاب، خطابات وصفيّة، تذكّر بسابقيها التي أُطلقت ولا تفتأ تُعاد من دون كلل منذ 11 أيلول/ سبتمبر 2001. وقد سبق أن حلل المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد بعض مظاهر هذا الخطاب وآلياته في كتابه: "تغطية الإسلام" (1981)، وبعد هذه الجريمة، تقاسمت المشهد التحليليّ في الفضاء الإعلامي الفرنسي ثلاث نزعات عامة.
النزعة الأولى تتمثّل في تلك التي تسعى إلى تعليل حادثة الدهس بمجموعةٍ من الأسباب الناجزة مثل الفشل في سياسة إدماج المهاجرين واندماج أبنائهم في النسيج الثقافي الفرنسي، وتأزّم الشعور بالهوية، وتأرجحهم، آباء وأبناء، بين ثقافتين متغايرتيْن، والبحث عن المَعنى من خلال العنف.
وقد انبنت هذه التفسيرات المستهلكة على تصريحات أوليّة، تبيّن لاحقاً خطؤها- مفادها أنّ مرتكب هذه الجريمة النكراء "هو فرنسي من أصولٍ تونسيّة"، بصيغة معهودةٍ في الإعلام الفرانكو-تونسي، وهي صيغة توهم عند إطلاقها في وسائل الإعلام بأنّه من أبناء الجيل الثاني أو الثالث للهجرة. وغالباً ما تُوحي في المخيال الاجتماعي بأنه من ساكني ضواحي المدن الفرنسية الكبرى، مع ما تستدعيه هذه الصورة النمطية، المبلورة في سوسيولوجيات الهجرة والاندماج الحديثة، من معان حافة Connotations عن هذه الفئة المهمّشة وربطها بمعضلة الهوية والعنف. ولكن سرعان ما تلاشى هذا التوصيف بتأكيد الجهات المسؤولة أنّ بوهلال، عامل تونسي، اكتملت ملامح تكوينه الذهني والنفسي في بلده الأصلي قبل هجرته.
أما النزعة الثانية فأن يتم ربط هذا العمل الفظيع بالسياسات الخارجية للحكومات الفرنسية المتعاقبة، ويعود بها ضارباً في مرحلة الاستعمار الفرنسي لبلدان المغرب العربي، خلال القرن التاسع عشر، كما لو كانت كل جريمة تحصل، الآن وهنا، انتقاماً بعدياً لما اقترفَه الاحتلال الفرنسي، من جرائم خلال الفترة الاستعمارية. وتستند هذه المقولة إلى أثر الذاكرة الجماعية في صنع التاريخ، واعتبار التباس العلاقات الفرنسية - المغاربية حساباً تاريخياً لم يسدّد بعد، فيلتجئ إلى الغموض الرمزي لهذا المبدأ لتعليل العنف الحاصل راهناً في فرنسا.
وأما التوجّه الثالث فيربط كلّ حدث إرهابي بما يسمى "تنظيم الدولة الإسلامية" وطرائق تصرّفها Modus operandi وهو ربط يستحضر هذه العبارة اللاتينية الفضفاضة ليحشر فيها كلَّ المناهج العنيفة، كما لو كانت حكراً على هذه الجماعة. ومن ثمة تُربَط بالإرهاب الديني عموماً، وبالدين الإسلامي خصوصاً، كما جاء في تصريحاتٍ رسمية، ضمن سلسلة من المتلاحقات الذهنية والخيالية التي تجعل الإسلام (مع غموض المصطلح وضبابيته فهل يعني: نصوص الدين المُؤَسِّسة؟ أم حَضارته الممتدة في التاريخ؟ أم الإسلام السياسي المعاصر وسلسلة فَتاواه؟...) مصدراً لكلّ الجرائم المُرتَكبَة.
التنظيم سواء يتبنَّى هذه العملية أو لم يفعل، فَما مدى صدقية هذا التّبني؟ علمًا وأنّ بوهلال صُوّر في نفس هذا الخطاب الإعلامي كمُدمن على المخدرات، وصاحب سوابق عدلية مع القضاء الفرنسي.
وبغضّ النظر عن التسرّع في إطلاق الأحكام -ضمن ثنايا المقاربة الإعلامية- وتحيّز أصحابها، فإنّ الجامع بين هذه الخطابات والعقل المنتج لها -عَلى اختلاف قائليها- هو وحدة الآلية الذهنية التي تربط الحدث الإرهابيّ - أياً كانَ حجمه وموطنه وفاعله - بِسلسلة من المقولات الجاهزة والتبريرات المعروفة، التي تستحضر آلياً، من ضمن لائحةِ تفسيرات، معلومة سلفاً، يعاد إنتاجها واستهلاكها مع كلّ حادث إرهابي، لكأنّ العقل الغربي (الذي يعبّر عنه محللو القَنوات والإذاعات الإخبارية الفرنسية ويتلقّاه جمهور متابعيهم) يختبئ وراء هذه المقولات لتغطية قصوره عن إدراك أسباب هذه الآفة الكونيّة. فالخطاب الناجز عن الإرهاب خاضع لمبادئ سابقة، تُستحضر لإضفاء معقولية وهمية على الخطاب، من دون أن تعانق تعقيدات الظاهرة المدروسة (مثل جريمة الدهس)، إرضاءً لجمهور المشاهدين والمتابعين، وتسليةً للضمير التحليلي، ولكنها تكتفي بإسقاط أسباب واهية على حَدَث شديد التعقيد، تعمل بمثابة عوائق أبستيمولوجية تحول دون المعرفة الحقة للظواهر المدروسة.