يجد قارئ التراث الإسلامي أنّ فتنة التكفير، أو آفته، طالما وُجدت على مرّ العصور الإسلامية.
وقد بدأ الأمر باكراً جدّاً، حين كفّر مسلمون الخلفاء أبا بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعائشة زوجة الرسول، وعليّ بن أبي طالب، والزبير، ومعاوية بن أبي سفيان...
وقد بدأت فتنة تكفير المجتمع بالخوارج، الذين قالوا بكفر مرتكب الكبيرة، وأحلّوا بذلك لأنفسهم قتل الآخرين، حتى قيل فيهم إنهم "يقتلون أهل الإسلام، ويتركون أهل الأوثان"، وهم الذين قال فيهم ابن عمر: "إنهم انطلقوا إلى آيات نزلت في الكفار، فجعلوها على المؤمنين".
ولم يقتصر الأمر على تكفير أشخاص بعينهم، بل تكفير من اتّبعهم أو أحبّهم أو أثنى عليهم، حتى وصل الأمر بعلاء الدين البخاري، المتوفى سنة 841 هجرية، أن قال: "من سمّى من الأئمة ابن تيمية "شيخ الإسلام"، كان كافراً لا تصحّ الصلاة وراءه".
ولم يستطع الحكماء والعقلاء ضبط تلك الموجة، بل هي ما لبثت تتنامى، وتنتقل كالعدوى.
اتّسع نطاق التكفير، ولم يعد يقتصر على فرد بعينه، بل شمل جميع أتباع المذهب المخالف، فلم يسلم مذهب من المذاهب من تكفير أتباع المذاهب الأخرى المخالفة له، كما فعل بعض أصحاب الأئمة الأربعة وغيرهم.
ومن ذلك قول الرستغفني الحنفي: "لا تجوز المناكحة بين أهل السنة والاعتزال". وقال الفضل: "لا يجوز بين من قال: أنا مؤمن إن شاء الله؛ لأنه كافر، ومقتضاه منع مناكحة الشافعية". فهو يرى كفر الشافعية الذين يوجبون الاستثناء في الإيمان.
ومثل هذا قول أبي القاسم البكري، الأشعري المذهب، وهو يُعَرِّض بالحنابلة أمام طلابه في المدرسة النظامية: "وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا. والله ما كفر أحمد، ولكن أصحابه كفروا".
وفي العصر الحديث، أطلت فتنة التكفير برأسها من جديد، وانطلق شررها من غياهب سجون الظلم، فبدأت بتكفير الحكام الذين يحكمون بالقوانين الوضعية، ثم اتّسع أفقها ليعمّ كل من يعمل في أجهزة الدولة، ثم وجدنا من يقولون بتكفير المجتمع كله، ولا يستثنون من ذلك إلا من انتمى إلى فكرهم، ولو لم يجاوزوا عدد أصابع اليدين.
والقارئ للتراث التكفيري يجد أن المكفرين لا يعدمون دليلاً من القرآن أو السنة يتعلقون به، بعد إساءة تفسيره أو شرحه، أو ليّ معناه أو تأويله. يقول الشاطبي: "لا تجد فرقةً من الفرق الضالة، ولا أحداً من المختلفين في الأحكام لا الفروعية ولا الأصولية، يعجز عن الاستدلال على مذهبه بظواهر من الأدلة".
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل صحيح أن التكفير أصيل في تراثنا العربي والإسلامي؟
إن نصوص القرآن والسنّة والتراث الإسلامي ككلّ، شأنها في ذلك شأن النصوص التي يقدّسها أتباع ديانة أخرى، تقسم الناس إلى مؤمنين وكافرين، وفي القرآن شواهد عدّة أبرزها الآية التالية: "هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن". (سورة التغابن). كذلك في السنّة والأحاديث النبوية كما في الحديث القدسي: "أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر".
وثمة آيات في القرآن تنهى عن موالاة الكافرين، وإن كانت تأمر ببرّهم والعدل معهم ما لم يقاتلوا المسلمين أو يساعدوا على إخراجهم من ديارهم: "يا أيّها الذين آمنوا لا تتّخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء تُلقون إليهم بالمودّة وقد كفروا بما جاءكم من الحقّ"، و"لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدّين ولم يُخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتُقسطوا إليهم". (سورة الممتحنة).
وتستند التنظيمات التكفيرية اليوم على نصوص قرآنية في قوانينها كتكفير المشركين وقتلهم وفرض الجزية على أهل الكتاب أي المسيحيون واليهود، مثل: "وقاتلوا المُشركين كافّة كما يقاتلونكم كافّة". (سورة التوبة). و"قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يُحرّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحقّ من الذين أوتوا الكتاب حتى يُعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون". (سورة التوبة).
وقد ذكر الطبري أن الآيتين الأخيرتين نزلتا على النبي في أمره بحرب الروم، فغزا غزوة تبوك، وأنّ السياق التاريخي للآيتين يدلّ على أن ذلك كان ضرورياً لتأمين حدود دولة الإسلام. ولكنّ التاريخ لم ينقل لنا شواهد من تراث التكفيريين توحي بمحاولة تطويع النص الديني والإحاطة بظرفه لمقارنته بالظرف المعاصر.
السؤال الآخر الذي يطغى اليوم هو: إذا كان للتكفير جذوره في التراث الإسلامي، فهل له أيضاً جذوره في التراث العربي قبل الإسلام؟
ما وصل إلينا من ديوان العرب لم يسجل أية نصوص تتعلق بتكفير الجاهليين لبعضهم أو لغيرهم. وعدم وجود الأدلة ليس كافياً لإثبات أو نفي وجود ظاهرة التكفير في الجاهلية. ولكننا برغم ذلك نجد في الشعر الجاهلي أمثلة عديدة تشير إلى اعتقاد الجاهليين بأن آلهتهم هي التي تدفعهم وتشاركهم الحرب ضد أعدائهم، وهي التي تنتصر لهم. ففي الحرب التي وقعت بين "بني أنعم" و"بني غطيف"، يقول الشاعر:
وسارَ بنا يغوثُ إلى مراد
فناجزناهمُ قبل الصباح
وطبيعي أن يُعَدّ أعداء الصنم أعداء للقبيلة. وهي مسألة ذات علاقة بمعاداة الآخر الذي لا يؤمن بالإله نفسه، وضرورة الخروج لقتاله.
ونجد في التراث الجاهلي أيضاً وصفاً للمفارق دين قومه بأنه صابئ. وقد اتّهم مشركو مكّة محمّداً بأنه صبأ، وكفر بدين آبائهم، وكانوا يكنّونه بابن أبي كبشة. وأبو كبشة هذا أحد أجداد النبي من قبل أمهاته.
وكانت العرب تظن أن أحدًا لا يعمل شيئًا إلا بعرق ينزعه، فلما خالف محمد دين قريش، قالوا: نزعه أبو كبشة؛ لأنّ أبا كبشة خالف الناس، وكان أوّل من عبد الشعرى. ما يثبت أنّ أهل قريش كفّروا محمّداً قبل أن تنتشر رسالته ويبدأ أتباعه يكفّرون الآخرين ثم يكفّرون بعضهم بعضاً.
كثيرة الشواهد التي تدلّ على أنّ تكفير الآخر، الذي لا يوافق المرء في دينه، ظاهرة عامة موجودة في جميع الديانات. فاليهودية لا تؤمن بالمسيحية وتكفّر أهلها. والمسيحية تكفّر الأديان الأخرى التي لا تؤمن بعقيدة الصلب والفداء. والبوذية تكفّر المسلمين، حتى وصل الأمر بأتباعها أن حرقوهم أحياء كما في بورما، وكذلك أتباع السيخية، وغيرهم.
بوجه عام، فإن أصحاب المعتقدات الدينية يضفون طابع القداسة على أفكارهم ومعتقداتهم، ويبرّرون تكفير الآخر بنصوص من الكتب التي يقدّسونها. فالتكفير هو نتاج لكلّ فكر أحادي، يصدر عن عقل لا يرى الحقيقة إلا من جانب واحد.
وإذا كان تكفير الآخر المخالف في الدين له مبرراته، فإن تكفير الآخر الذي يدين بالديانة نفسها، ولكنّه يخالفه في المذهب، أمر شائع أيضاً. فالأورثوذكس يكفّرون الملل المسيحية الأخرى من الكاثوليك والبروتستانت. وهذه الملل تكفّر الأورثوذكس أيضاً. ويكفي أن نشير في هذا الصدد إلى ما أحدثه الصراع بين الكاثوليك والبروتستانت من دمار وفناء.
ففي حرب الثلاثين عاماً (1618- 1648م)، مات الملايين من الضحايا، وفقدت ألمانيا نحو نصف سكانها، وكانت المجازر تشمل عمليات القتل والحرق والتهجير بين القرى المتجاورة، بل داخل البلدة الواحدة. وما تزال ظاهرة تكفير الملل المسيحية الأخرى مستمرة حتى اليوم.
* باحث من مصر