جالياتنا... وهم الرفاهية وبؤس الواقع

20 مارس 2018
+ الخط -
بداية لننطلق في نزهة صوب سحاب مركوم من حزمة قوانين وتشريعات أميركية وغربية كفيلة بإعطاء انطباع عن ماهية أحوال المهاجرين العرب، ففي رحلة الاستقصاء يبرز أولاً قانون المواطنة ومحاربة الإرهاب ( Patriot act)، وثانيا ظاهرة التغليف (Encapsulation) في علم الاجتماع وينبثق عنها ردود فعل مغايرة تشابه الشخصية الانفصامية لمصطفى سعيد بطل رواية الطيب صالح موسم الهجرة إلى الشمال، وثالثا ظاهرة نزف الأدمغة ( Brain Drain)، ورابعا قضايا الاندماج، وخامسا التحايل الضريبي، وسادسا قانون رعاية الأطفال (children in care)، وتبنى عليه تدخلات في الشأن الأسري، وسابعا الهجرة لدوافع علمية ومثالها ابتعاث محمد علي لرفاعة الطهطاوي لفرنسا، وثامنا شيطنة الجاليات، وآخرها ما جاء به ترامب قبل أيام سعياً لإلغاء برنامج تأشيرة الدخول العشوائية المسمى (diversity visa lottery program) متراجعاً عن الالتزام الأدبي تجاه بلدان العالم الفقيرة، ناهيك عن قرعة قوارب المهاجرين وملخصها قرعة الموت الخاسرة بين أمواج المتوسط وشطآنه، وتاسعا حظر الحجاب وخذلان علماء السلاطين وبعض المؤسسات الدينية للجاليات وطعنها من الخلف، وعاشرا صعود اليمين المتطرف وما يترتب عليه من سياسات في ظل تعدد دوافع الهجرة مابين النزوع العلمي لفاروق الباز والنزوع الرياضي لمحمد صلاح والدوافع الفطرية بين هذه وتلك، وهجرة الهواة وهجرة الباحثين عن المجد وهجرة المعذبين في الأرض وهجرة العقول وهجرة طلبة العلم وهجرة الاضطهاد واللجوء السياسي والهجرات التجارية، ليتوزع أصحابها بين العمال اليدويين والعمال المهرة، وأصحاب المؤهلات والحرفيين والمتخصصين وذوي الكفاءات ورجال الصناعة ورجال الإعلام والأدباء والصحافيين بل حتى لاعبي كرة القدم.

وقد جاء التموضع الجغرافي للعرب الشاميين في الأميركيتين، أما الجاليات اليمنية والعراقية والمصرية ففي بريطانيا والمغربية بطبيعة الحال في فرنسا وإسبانيا وألمانيا، بينما تتشتت الجاليات الفلسطينية شرقاً وغرباً! وفي الوقت الذي تتوزع فيه الجاليات بعشوائية في بريطانيا، نجدها على النقيض من ذلك في فرنسا مجتمعة في جغرافيا محصورة، وقد وصلت أعداد المهاجرين المسلمين لما يقارب الخمسين مليونا في أوروبا والعالم، ففي فرنسا وحدها يقترب العدد من سبعة ملايين، ونصف ذلك في أميركا وما يفوق الأربعة ملايين في ألمانيا، وأقل بمليون في بريطانيا المتباهية بمئوية وعد بلفور، ومليونين في إيطاليا.


ومعلوم أنه بعيد الحرب العالمية كانت الحاجة ماسة للأيدي العاملة مما استقطب الجاليات العربية وغيرها، وفي أواسط السبعينيات جاء الاستقطاب الثاني بدوافع تأصيل مفاهيم العالم الحر والحداثة والمجتمع المدني الديمقراطي، بمعنى أن استقطاب المرحلة الثانية كان بفعل ذاتي موزعا على عدة تفسيرات خلافا للاستقطاب الأول، ووصل الأمر ببعض الجاليات إلى اعتبار عاصمة الضباب جنة المهاجرين؛ كونها عاصمة التعددية والتسامح ناهيك عما تمثله من واحة للإعلام العربي المهاجر..

وتحضرنا في هذا السياق نظرة ابن خلدون لانعدام العدل الاجتماعي الذي هو باعث الهجرة في أحيان كثيرة، لتؤكد أن مصدر الظلم ليس الأفراد بل الدولة بذاتها، إذ يقول (إن الظلم لا يقدر عليه إلا من يقر عليه، لأنه إنما يقع من أهل القدرة والسلطان)!

ووفق ذلك تتكون لدينا جملة حقائق، لنجد فيها ان التتبع النفسي للجاليات يتقاطع مع رؤية الاغتراب الفلسفي، فالتموضع بحثاً عن الذات ولد أنساقاً من التثاقف في إطار صراعات الغربة والاندماج، وأوضح منتوج لهذا هو ازدواجية التراث المهجري وفق معادلة تراثية عربية مهجرية، وهذه الازدواجية التراثية بما تحمله من تأثير سوسيوتاريخي كانت على الدوام المفتاح والمدخل صوب بوصلة المجهول.

نبدأ من حيث انتهى إدوارد سعيد في واحدة من أواخر مقالاته، فالذي يجتاح العالم وفق رؤيته هو صراع الجهالات لا صدام الحضارات، وهذا ولد انعدام القدرة على فهم الآخر مما يدفع نحو هجرة التقوقع الذاتي لا الجغرافي، وبما يترتب على هذه الحالة من تداعيات خصوصا بعد توالي الصفعات للعائلة العالمية ليس آخرها ما حصل في نيويورك مانهاتن..

وقد تتابعت فيما مضى رزمة قانونية تحد من حركة الجاليات، فهي مطالبة بإصدار شهادة حسن سلوك، ومعرضة لمن يشاء في إلصاق التهم الفوبيوإرهابية، ولك أن تتصور مقدار الحرج إثر تبني حركات التحرر الخيار السلمي في قضاياها، فأصبحت التهم بالتالي لا تقبل القسمة على اثنين لتجد لنفسها تأصيلا في النطاق الاجتماعي في المجتمعات المدنية الغربية في ظل هيمنة مفهوم عسكرة العالم وإدماجه عرفيا!

جالياتنا تحت المجهر
خروج الموجات البشرية من قلب آسيا وشبه الجزيرة العربية حيث يتوفر الماء والغذاء كان بفعل التغيرات المناخية وفق رؤية هنتنغتون، لكن الأمر لا يحتاج إلى إعمال العقل لتفسير دوافع الهجرة بعيد منتصف القرن التاسع عشر، علاوة على أن هجرة الرعيل الأول من الرواد العرب اتسمت بطابع الهجرة التقليدية، وإن تقادم الزمان وفق رؤية هنتنغتون كفيل بتحديث أبعاد هذه الظاهرة، فالعقول المهاجرة تبحث بداهة عن رؤوس والشرق بلا رؤوس هكذا هو توصيف الحالة التاريخية الراهنة، ومن هنا فرادة الفعل تجاه هجرة العقول ولدت جدلاً واسعا بقدر حاجة الشرق لنوابغه!

قطار الهجرة العربية لم ينطلق نحو محطاته في أوائل القرن الماضي بل قبله بعقود وأكثر، فالوجود العربي في كوبا يعود لمئتي عام على الرغم من أن تأسيس الاتحاد العربي للجاليات في كوبا تأخر إلى العام 1979، وهي مفارقة واضحة، ومعلوم أن الجاليات العربية الشامية المهاجرة نحو الأميركيتين، بدأت في هجرتها منذ نهايات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، فكانت صحيفة كوكب أميركا المؤيدة للسلطان العثماني آنذاك الصحيفة المهجرية الأولى في أميركا..

وقد أورد المؤرخ فيليب حتي، أن الأب إلياس بن حنا الموصلي الكلداني قام برحلة إلى العالم الجديد استغرقت 23 سنة 1660 إلى 1683 زار فيها بلدان أميركا الشمالية والوسطى والجنوبية، ثم رجع لبغداد ليؤلف كتابه المشهور رحلة أول سائح شرقي إلى أميركا، وتذهب بعض الآراء إلى أن أنطونيوس البشعلاني هو أول مغترب عربي سوري هاجر إلى أميركا الشمالية عام 1854، وقد تحدث المؤرخ فيليب حتي عن الهجرة الشامية في كتابه السوريون في أميركا الصادر عام 1924..

ولعل الحقبة الأساسية في هجرة الجاليات العربية لأميركا تتمحور بين عامي 1898 إلى 1924، أما أقدم الجاليات العربية في بريطانيا فهي اليمنية لتستبق أدباء المهجر أمثال جبران والمعلوف والقروي وإيليا أبوماضي وفرحات، وتم إنشاء العصبة الأندلسية لأدباء المهجر عام 1933.

جالياتنا استعراض الحال والمآل
تتجدد مظاهر الاعتداء على مساجد الجاليات ومتاجرها وممتلكاتها، بفعل إدارة الإعلام الممنهج الموجه بسياسات وتصريحات حكومية بل وتشريعات ساهمت في حرمان الجاليات من بعض مكتسباتهم القانونية والتشريعية، ناهيك عن الاعتداءات اللفظية والبدنية والتدخل في الشؤون الأسرية وأجندة التبشير الكنسي بين أبناء الجاليات، والسعي في إطار العلمانية وفق أسوأ صورها.
دلالات