جئت بالمستقبل الميْت

10 يناير 2016
من سلسلة "غرف" لـ تيسير البطنيجي / فلسطين
+ الخط -

جئت بالمستقبل الميْت ومددته هنا
فوق التراب المجنون.
ومن عمق الحدائق المزهرة
أبدأ بلداً،
أُؤسس خلفه مدافن للغرباء
حباً يمتد حتى الشاطئ
وربما جبلاً مزخرفاً بمناجل وينابيع
أضع سريراً في آخر الطريق
سرير لكِ تحلمين فيه
أن كل شيء سيكون واضحاً كحلم ..

جئت بالمستقبل الميْت، محاطاً بالكمامات والأدوية
أحرسه إلى آخر الليل،
ولن يطالبني به أحد
لا القائد بأثدائه المعدنية، ولا الأم البلا أجفان
في جسدها حليب وارتجافات مصابيح
وإذ تضيء رأسي الصافية
أتأمل الآن عبر الحطام
موكباً هائلاً من نازحين
اهتدوا إلى مراع لم تحترق بعد،
يتبعهم حملة المساعدات والسيول الجارفة
وأطفال تسيل دماؤهم منذ بدء السنة،
ورجل جنّ منذ يومين، يحمل قذيفة معطلة
تحوم حولها أرواح الذين قتلتهم قذيفة أخرى
عدا روحا واحدة
كانت محمومة، تروح وتجيء
وتتحدث معي
أحمل الدفتر مدوّناً كلّ شيء
تاريخ انهدام كل مبنى، أسماء الذين اختفوا في السوق
اليوم الذي استنشقوا فيه الغاز
عدد الواقفين على الحاجز
وعدد المرميين في البئر
سقوط الجرس من البرج القديم
وقائع المؤتمر الصحافي، وساعة مرور الموكب
.. كل شيء واضح ومكتوب
الجريمة الأولى والصورة الأولى
والأغنية التي سمعناها في آذار 2011
وعابرو الحدود، والوشايات واسم ذاك المجرم
الذي يتناول عشاءه مع زوجته وأولاده،
ولحظات الندم تحت المطر،
والكمبيوتر الذي لم ينطفئ منذ مصرع صاحبه
والأوامر الخطية بتوزيع المتفجرات
وأفكار المديرة التنفيذية للجلاد
والجبناء الذين يقرأون روايات الحب
ويعجزون عن مصافحة جيرانهم.

جئت بالمستقبل الميْت، ملطخاً بدم ركبتي
ومن بعيد سأرى تلك الرؤوس العائدة إلى الأرض
متوّجة بالليل الذي يبدأ من الهاوية
لا أعرف أسماءها لكنها شفافة وقوية،
سوداء في الحرائق التي نتنفّسها.
السجناء أيضاً، الذين فقدوا أقدامهم، سأراهم
دود في أمعائهم، أسنان محطمة وبقايا الزجاج في أكفّهم.
هدوء لا يطاق في أحضان أمهات تهن عند الحدود،
حيث السماء منفجرة، وعلى الطريق غبار الحديد
هدوء رمادي كبير حول قصر الرئيس ومرابض مدفعيته
يركض الفتى، تركض خلفه الأخت.. تتبعهما مدينة من كذب ثقيل
تطير الأقمشة والطناجر والعرائش المعمرة فوق السطوح
موتوسيكلات وشاحنات ومراطبين مربى المشمش
أشخاص كثر يتطايرون أيضاً
يأتي مصرفيون وتجار باطون ومهندسون
لإحصاء المكاسب وخطوط الطول وأفق النار
يأتي الجنود من كل صوب
جنود حمقى يقرفصون ويدخّنون أصوات المعذَّبين.

جئت بالمستقبل الميْت، كخادمة آسيوية حطّمها الخجل،
مصطحباً ممرّضي الأسى، رعاة نسياني،
الذين كانوا يطاردونني في الشوارع من أجل مأدبة مع العدو
ومعهم حفّارو الخنادق الضائعون بعيون نصف مغمضة.
يأتي إخوتي الذين لا يعرفونني وحيواناتهم الشتائية
يجرّون الآلة النهائية لتكسير العظام ومحو الكتب
فمي الآن الذي ينقض على الأرض، أعمق من الأرض، أبعد
يمضي مختلجاً
بجسد يرفض أي تعاطف.
وتستيقظين أنتِ مخنوقة من ضراوة الساعة
بذرة حبّك في فم الغراب
أو بيدي السامة.

جئت بالمستقبل الميْت، أحمله كثمرة وحشية
نبتت في ضواح لا يشفى فيها مريض،
ومن أجل أن أكتب
سأطالب بميراث المغدورين والأجنّة
والذين ضاعوا بعد كل مرفأ
كثيرون كبجعات مذعورة.. ولا جزيرة
لا ملجأ في البحر، لا ماء في البحر
طافون فيه، لا فردوس يصلون إليه
لكن خوفهم الذي انسكب تحت الموج الساكت
وصورهم العائلية في الجيوب المنتفخة
ورائحة الرضيع المغسول
والنار التي حفظوها في عروة قمصانهم.
أفواه ترعّشها نداوة الفجر الأخير
ويمزقها الملح ..
مرج مائي من أجسام مقفلة
والطيور مكتظة فوق اللحم الأزرق
بحر أزرق أكثر من مرة في بحر أبيض
يأكل والشمس والأسماك
عيوناً كالأوسمة
لن يسمعوا بعدها
ثغاء خرافهم، ولا إذاعات الفجر
وحفيف صفاف الطريق ومياه القرية..
سيتوارى دمهم والمناديل والحقائب في القاع
كنوزاً من نوم أبدي.


* من مجموعة "في فم الغراب" الصادرة مؤخراً عن "دار رياض الريس للكتب والنشر"، والقصيدة تنشر هنا بالاتفاق مع الشاعر


اقرأ أيضاً: "في فم الغراب": الحقيقة سم على شفاهنا

دلالات
المساهمون