ثلاث مدن غير مرئية

02 مايو 2015
من سلسلة "مدن غير مرئية"، كولين كورادي براينين، إيرلندا/إيطاليا
+ الخط -

مدن وعلامات

تسير أياماً بين أشجارٍ وأحجار. ونادراً ما تلتمع العينُ برؤية شيء، وحتى عندئذ أنتَ لا تتعرّف على ذلك الشيء إلا كعلامةٍ على شيء آخر؛ طبعةٌ في الرمل تشير إلى مسارِ النمر؛ أرضٌ سبخة تنبئ بوجودِ عرقِ ماء؛ زهرةُ خبازي تعني نهاية الشتاء. كلُّ ما تبقّى صامتٌ ويمكن أن يحلَّ بعضه محلَّ بعض؛ الأشجارُ والأحجارُ ليست إلا ما هي عليه.

وأخيراً تقود الرحلةُ إلى مدينة "تامارا". وتتغلغل فيها على امتدادِ شوارعٍ مكتظة بلافتاتٍ ناتئة من الجدران. العينُ لا ترى أشياءً، بل صورَ أشياءٍ تعني أشياءً أخرى: تشير كماشاتٌ إلى بيت خالع الأضراس؛ إبريقٌ يشير إلى الحانة؛ أسلحةٌ من رماح وفؤوسٍ تشير إلى الثكنات؛ قشورُ السمكِ تشير إلى حانوتِ أسماك. تماثيلُ ودروعٌ تصوّر أسوداً ودلافينَ وأبراجاً ونجوماً: علامةٌ على شيءٍ ما ـ من يعرف ماهو ؟ ـ يمتلكها بوصفها علامته على أسدٍ أو دولفينَ أو برجٍ أو نجمة.

هناك إشاراتٌ أخرى تحذّر مما هو محظورٌ في مكانٍ معين (أن تدخلَ الزقاق بعرباتٍ، أن تتبولَ وراء الجوسق، أن تصيدَ السمك بقصبتكَ من فوق الجسر) وتشير إلى ما هو مسموحٌ به (سقي الحمرِ الوحشية، لعبُ البولنغ، إحراقُ جثث الأقارب). ومن أبوابِ المعابد، تشاهد تماثيلَ الآلهه، كلُّ واحد منها مصوّر مع صفاته ـ قرنُ الخصب، الساعةُ الرملية، الميدوزا ـ كي يستطيع كلُّ متعبدٍ التعرف عليها، وتوجيه صلاته إلى الإلهِ المقصودِ بدقة.

إذا كان المبنى لا يمتلك لافتةً أو ما يشخّصهُ، فإنّ شكلهُ ذاته والموقعَ الذي يحتله في نظام المدينة يكفيان لتعيين وظيفته: القصرُ، السجنُ، دارُ سكّ النقود، المدرسة الفيثاغورية، المبغى.

البضائعُ التي يعرضها الباعةُ في حجيراتهم ليست ثمينة بذاتها أيضاً، بل بوصفها علاماتٍ على أشياء أخرى: عصائبُ الرأس المطرزة تمثل الأناقة؛ المحفاتُ الذهبية تمثل السلطة؛ كتبُ ابن رشد تمثل المعرفة؛ دملوجُ الكاحل يمثل الشهوانية. تتصفح عيناكَ الشوارع كما لو أنها صفحات كتاب مكتوبة: تقول المدينةُ كلَّ شيء يجب أن تفكر فيه أنتَ، تجعلكَ تكرّرُ خطابها. وبينما أنتَ مؤمنٌ خلال هذا أنكَ تزور "تامارا"، أنتَ في الحقيقة لا تفعل إلا تسجيلَ الأسماء التي تعرّف بها نفسها وتعرّف بها أجزاءها كلها.

مهما كان من أمرِ ما قد تكون عليه المدينة حقّاً، تحت هذا الحجاب الكثيف من العلاماتِ، وأيا كان ما قد تحتويهِ أو تخفيه، فأنتَ تغادر "تامارا" من دون أن تكون اكتشفتها. في الخارج تمتد الأرضُ خاليةً حتى الأفق؛ السماءُ مفتوحة مع غيوم مسرعة. في الشكلِ الذي تمنحه الصدفةُ والريحُ للغيوم تكون قد عزمتَ مسبقاً على تمييز أشكالٍ: سفينة مبحرة، يد، فيل...


مدن وذاكرة

في ما وراء ستة أنهارٍ وسلاسلَ جبلية ثلاث تبرز "زورا"، مدينةٌ لا يستطيع أحدٌ نسيانها ما أن يراها، ليس لأنها تترك صورةً غير عادية في ذكرياتكَ المستعادة مثل مدن أخرى قابلة للتذكر.

"زورا" تمتلك خاصّية البقاءِ في ذاكرتكَ نقطة نقطة، بتتابعِ شوارعها وبيوتها على امتداد الشوارع، والأبوابِ والنوافذِ في البيوت، مع أن لا شيءَ من هذا يمتلك جمالا مميزاً أو سمة نادرة. سرُّ "زورا" يكمن في الطريقة التي تمرُّ بها نظرتكَ المحدّقة على أشكالٍ يتلو أحدها الآخر كما في مقطوعةٍ موسيقية لا يمكن تغيير نغمة فيها أو استبدالها بغيرها.

الإنسانُ الذي يحفظ غيباً كيف أقيمت "زورا"، إن لم يستطع النوم ليلاً، يمكنه تخّيلَ أنه يمشي على امتداد الشوارع ويتذكّر النظامَ الذي تأتي فيه الساعةُ النحاسية بعد ظلّةِ الحلاق المقلّمة، ثم النافورة ذات التسع نفاثات، فبرجُ الفلكيّ الزجاجي، فجوسقُ بائع البطيخ، فتمثالُ الناسكِ والأسد، فالحمّامُ التركي، فالمقهى عند الزاوية، فالزقاقُ الذي يقود إلى الميناء.

هذه المدينة التي لا يُستطاع محوها من الذهن تشبه حافظةً، قرصَ عسلٍ يستطيع كل واحد منا وضع الأشياءَ التي يريد تذكّرها في خلاياه: أسماءَ رجال مشهورين، فضائلَ، أرقاماً، أصنافَ خضار وأصنافاً معدنية، تواريخ معارك، كوكباتٍ نجمية، أقسامَ كلام.

بين كل نقطةٍ وفكرةٍ من نقطِ وأفكارِ خطّ الرحلةِ يمكن أن يُقام نسبٌ أو تباينٌ، يفيد كمساعدٍ فوري للذاكرة. لهذا فإن أكثرَ رجالِ العالم معرفةً هم أولئك الذين يستذكرون "زورا".

ولكنني عبثاً انطلقتُ لزيارة المدينة: فهي بالبقاءِ ساكنة كرهاً، وبالبقاءِ هي نفسها دائماً، لكي يكون تذكّرها أكثر سهولة، وهنتْ "زورا"، تفككتْ، اختفتْ. نسيتها الأرض.


مدن ورغبة

يمكن الوصولُ إلى "دسبنا" بوسيلتين: بسفينةٍ أو جملٍ. المدينةُ تعرض وجهًا للمسافرِ الذي يصلها برّاً، وآخرَ مختلفاً لذلك الذي يصلها بحراً.

حين يشاهد الجمّالُ، في أفق النجدِ، قممَ ناطحات السحاب تلوح للنظر، هوائياتِ الرادار، مؤشراتِ اتجاه الريح البيضاء والحمراء ترفرف، المداخن تطلق الدخانَ، يفكّر بسفينة؛ إنه يعرف أنها مدينة، ولكنه يفكّر بها كمركبةٍ ستأخذه بعيداً عن الصحراء، كسفينةٍ شراعية كبيرة على وشكِ الإبحار، مع نسيمٍ بدأ سلفاً ينفخ الأشرعة التي لم تنشرها بعد، أو كزورقٍ بخاري مع مرجلهِ المرتجِّ في قاعهِ الحديدي؛ ثم يفكّر بكلِّ الموانيء، بالبضائعِ الاجنبية التي تنزلها الرافعاتُ على أرصفةِ تحميلِ السفن، بالحاناتِ حيث يكسر بحارةُ أعلامٍ مختلفة زجاجاتٍ على رؤوس بعضهم بعضا، بنوافذِ الطوابق الأرضية المضاءة، وفي كلِّ واحدة منها امرأةٌ تمشّط شعرَها.

ويتبين البحّارُ في سديمِ الخطّ الساحليّ كاهلَ جملٍ، سرجاً مطرزاً بأهدابٍ ملتمعة بين سنامين منقطين، يتقدمُ ويتمايلُ؛ إنه يعرف أنها مدينة، ولكنه يفكّر بها كجملٍ تتدلى من على ظهرهِ زقاقُ خمرٍ وأكياسُ فاكهةٍ ملبّسةٍ بالسكر، خمرُ بلح، أوراقُ تبغٍ، ثم يرى نفسه مسبقاً على رأسِ قافلة طويلة تأخذه بعيداً عن صحراءِ البحر، نحو واحاتِ ماءٍ عذبٍ في الظلِّ المثلّم لأشجار نخيلِ، نحو قصورٍ سميكةِ الجدران مبيضّة بالكلسِ، قاعاتٍ مبلطةٍ بالقرميدِ حيث ترقص فتياتٌ عارياتُ الأقدام، يحركنَ أيديهن، وتخفي خمرهن نصفأً وتكشف نصفاً.
كلُّ مدينةٍ تتلقى شكلها من الصحراءِ التي تواجه؛ ولهذا يرى الجمّالُ والبحّارُ "دسبنا" مدينةً حدودية بين صحرائين.



* ترجمة عن النص الإنجليزي**: محمد الأسعد
** Invisible Cities, translated  from the Italian  by William Weaver, Vintage, London, 1997

المساهمون