تونس وسؤال العدالة الانتقالية

03 ابريل 2018
+ الخط -
بدأت أشعر كلما أخذت القلم لأشرع في كاتبة مقالي الأسبوعي في "العربي الجديد" بصعوبة اختيار الموضوع. وإنما لاعتقادي بأن الانتقال الديمقراطي في تونس قصة لا بد أن يبقى معظم العرب، خصوصا المثقفين منهم، يرون فيها الأمل المتبقي في إمكانية إقامة نموذج جديد في العالم العربي يشكل حافزا للذين نفضوا أيديهم من أوضاع بلدانهم، وعاد إليهم اليأس من إمكانية الإصلاح والتقويم. وهنا تكمن الصعوبة، ويولد هذا القلق الداخلي الذي أصبح يسكنني خلال هذه الفترة.
عندما تأسست الدولة الوطنية، ألغى زعماؤها تلك الشبكات والهيئات المتنوعة، أو قاموا بتحويل وجهتها والهيمنة عليها لصالح طرف رئيسي في هذه النخبة السياسية التي سبق لها أن استفادت من المساحة المتعدّدة التي كانت متاحة لها. وقد استمر الحال فترة طويلة، على الرغم من الفجوات التي بدأت تتراكم منذ ثمانينيات القرن الماضي، والتي سمحت، على الرغم من ضيقها بتشكيل وعي ديمقراطي جديد، حاول الرئيس المخلوع، زين العابدين بن علي، تجفيف منابعه، لكنه فشل في ذلك، حتى جاءت الثورة فأطاحته، وسمحت بقيام مشهد جديد.
اليوم، تراكمت الأخطاء والمناورات، وهو ما جعل الكتابة عن الحالة التونسية شاقة ومرهقة، لأنك مطالبٌ في الآن نفسه بأن تكتب بموضوعيةٍ عن واقعك الداخلي، حتى لا تغالط قراءك العرب بالخصوص. ولكن عليك ألا تتورط في تغذية حالة الإحباط، وتصبح من دون وعي منك جزءا من حملةٍ يقودها أعداء الثورة الحريصون على قطع الطرق، والدفع نحو الخلف.
آخر خطوة تم الإقدام عليها، لكن في الاتجاه المعاكس للانتقال الديمقراطي، تصويت البرلمان على إيقاف أعمال هيئة الحقيقة والكرامة، من دون احترام الإجراءات، مثل عدم توفر النصاب القانوني المجمع عليه. وهذه قصة طويلة، لأن الفرقاء وجدوا أنفسهم منقسمين، يتبادلون التهم بشكلٍ بلغ أحيانا حد الرداءة والخروج عن قواعد التنافس الديمقراطي. ولا نريد العودة إلى ذلك، بعد أن نقلته كاميرات التلفزيون مباشرة، ولم يعد سرا على أحد. كما لن نغرق القارئ في تفاصيل المشهد المحلي الراهن.
الأهم الآن هو ما يتعلق بمستقبل مسار العدالة الانتقالية: هل ستستمر باعتبارها اختيارا استراتيجيا؟ أما أنها ستتبخر، في ظل هذا الصراع المفتوح بين جبهتي المدافعين عن الهيئة التي تترأسها سهام بن سدرين في مقابل الرافضين لها. ويبدو أن الخلاف لا يدور حاليا بشأن الإبقاء على المسار أو إلغائه، إذ لم يجرؤ أحد من اللاعبين الرئيسيين، بما في ذلك كوادر حزب نداء تونس، على التصدي علنا لمسألة العدالة الانتقالية، بمن في ذلك الذين قد توجه إليه تهم في هذا السياق.
هناك أغلبية واسعة جدا متمسّكة باستكمال ما تبقى من حلقات هذا المسار، حتى لو تظاهر بعضهم بذلك، فالذاكرة التونسية مجروحة، بسبب الانتهاكات الفظيعة التي ارتكبت خلال مسيرة دولة الاستقلال. وبدون الكشف عن الحقيقة، ثم المحاسبة والمصالحة، وتصحيح العلاقة بين الدولة والمواطنين، لن تتأسس الثقة الجماعية المطلوبة الآن.
لن يكون استكمال المسار سهلا، ما لم يتم فض الجوانب القانونية والشكلية التي حصلت أخيرا، وضرورة التوافق بشأن مصير الهيئة الحالية، هل يمكن إلغاؤها في الوقت الذي أعلنت تمسكها باستمرار نشاطها، أم ستلجأ السلطة التنفيذية، بمكوناتها الحزبية، إلى استعمال أجهزة الدولة من أجل تعطيلها بالقوة؟ وإذا حصل ذلك، كيف ستبدو صورة تونس، خصوصا بعد أن دانت منظمات حقوقية دولية قرار البرلمان أخيرا؟
مؤكّد أن قرارا جديدا يجب أن يتخذ لاحتواء الأزمة، ويجب أن يحظى بموافقة الأحزاب الحاكمة، وكذلك الداعمة لها على الأقل. كما لا يمكن إغفال أن أطرافا عديدة مساندة لهيئة الحقيقة والكرامة لها تحفظات كثيرة على أداء رئيسة الهيئة التي تمتعت بدعم قوي من حركة النهضة في مرحلة التأسيس، لكن زعيم الحركة، الشيخ راشد الغنوشي، المتمسك باستمرار التوافق مع حزب نداء تونس، على الرغم من التصدّع الذي جرى أخيرا، تحدث بصيغةٍ قد تساعد على الخروج من الأزمة، قائلا إن "النهضة تميز بين الأشخاص والمسار والمؤسسات"، وشدد على أن "العدالة الانتقالية من استحقاقات الثورة، بقطع النظر عن التفاصيل"، وكأنه بذلك يعلن عن تخليه عن بن سدرين في مقابل إنقاذ العدالة الانتقالية.