تونس.. جدل الهوية وسيرورة التحديث

10 سبتمبر 2018
+ الخط -
يرى صاحب نظرية نهاية التاريخ، المفكر الأميركي، فرنسيس فوكوياما، في أحدث دراساته عن أزمة الهوية والنزعة القبلية الجديدة، أن كل التحولات التي تشهدها المجتمعات العالمية، مع بداية الألفية الجديدة، ترتبط، بشكل أو بآخر، بالتحولات الاقتصادية والتكنولوجية للعولمة، لكنها أيضا متجذّرة في ظاهرة صعود سياسات الهوية.
في تفسيره هذا المعطى، يضيف فوكوياما أن السياسة كانت، في معظمها، خلال القرن الماضي، تحدّدها المسائل الاقتصادية: كانت السياسة من جهة اليسار تعتمد على العمال والنقابات العمالية وبرامج الرفاه الاجتماعي للطبقة الوسطى، وسياسات إعادة التوزيع وسناريوهاته. ومقابل ذلك، كان اليمين مهتما بشكل أساسي بتحجيم حجم الحكومة، وتعزيز القطاع الخاص.
أما اليوم، وكما يرى فوكوياما، "فإن السياسة أصبحت تتحكّم فيها مسائل الهوية أكثر مما تتحكّم فيها المشاغل الاقتصادية والأيديولوجية".
(2)
يفسر هذا المدخل النظري لهذا المقال تماما حيرة أوروبا أمام المأزق التاريخي الذي وضعته أمامها هوية الحقوق والتطبيقات التقنية للديمقراطية، وما أفضت إليه من صعود ليمين متطرّف، يرفض الإدماج، ويؤسّس لمجتمع مغلق.

هذه الحيرة الأوروبية التي جعلت الرئيس الفرنسي، نيكولا ساركوزي، مثلا، يُحدث في العام 2007 وزارة للهوية والهجرة. وجعلت الرئيس الحالي لفرنسا، إيمانويل ماكرون، يعيش على أمل قيام إسلام فرنسي وحلم استعادة الفرنكوفونية مكانتها التاريخية. نجد هذه الحيرة في أميركا تتشكّل في شعور حاد بخيبة أمل تكتسح المخيال الأميركي الجمعي، بسبب سياسات الرئيس دونالد ترامب، والثقافة التي أفرزتها، والتي غيّبت الهوية "الراقية" للشعب الأميركي. في ألمانيا هنالك أيضا دعوة يطلقها زعماء اليمين، ويلحون في تكريسها مطالبين بوجوب: "عودة الألمان إلى الأمور التي تهمهم: من نحن الألمان، ومن أين نأتي، وإلى أين نحن ذاهبون؟".
لقد أحدثت العولمة تغييرا اقتصاديا واجتماعيا سريعا، لكن للعولمة نتاجات أخرى، تكرّس التنوع والتعدّد وتكاثر المجموعات. وبالتالي صعود الهويات وانفجارها التي كسرت الحدود الضيقة، وخرجت إلى العلن بتعبيراتٍ مختلفةٍ، وأقليات عابرة للقارّات والعواصم والحضارات، تعتقد أن هوياتها الوطنية أو الدينية أوالإثنية أو الجنسية.. لا تلقى الاعتراف الكافي.
ولم تعد سياسة الهوية ظاهرةً صغيرةً، تظهر فقط في الحدود الضيقة، أو على خلفية المناوشات ذات الرهانات المحدودة الضيقة، أو على خلفية المناوشات ذات الرهانات المحدودة في الحروب الثقافية التي تدعمها وسائل الإعلام. أصبحت سياسة الهوية مفهوما رئيسيا يفسّر جزءا كبيرا مما يحصل في الشؤون المحلية والعالمية.
(3)
في الحالة التونسية، كان شباب ثورة الياسمين الذين انتفضوا، وجرّوا وراءهم شرائح من شباب المدن والقرى، وبالتالي بقية المجتمع، يبحثون عن هويّة تعرّفهم، ارتبطت أساسا بالعمل والكرامة.. وخلال حكم الترويكا (2012/ 2013)، عاشت تونس معركة أخرى من معارك الهوية، وخلال كتابة المجلس الوطني التأسيسي دستور 2014، عاشت تونس كذلك على وقع جدل بشأن مضامينه .. ثم عاد هذا الجدل الهوياتي بحدة بعد يوم 1 يونيو/ حزيران 2018، تاريخ صدور تقرير الحريات الفردية والمساواة بشأن مجموع المضامين السياسية والقانونية والدينية والأخلاقية، ومسائل الأحوال الشخصية وقضايا الحريات والمساواة التي تضمنّها هذا التقرير.
(4)
تاريخياً، عرف مسار الهوية في تونس "صراعا" معلنا حينا، وخفيا أحيانا، بين تياريْن: محافظ وآخر تحديثي، تقود الشق الأول مؤسسة جامع الزيتونة التي امتاز أغلب مشائخها بسعة العلم ووسطية الرأي. أما الشق الثاني فقد مثله الشباب العائدون من الجامعات الفرنسية، والمتشبعون بثقافة فرنسية تنويرية، ومن رموز هؤلاء الزعيم الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف ومحمود الماطري ومحمود المسعدي. وخلال صراعهم الوطني مع فرنسا المستعمرة، كانت الهوية التونسية التي عبّروا عنها بالشخصية التونسية، وأحيانا بالذاتية التونسية، سلاحا رفعه هؤلاء الحداثيون في وجه فرنسا التي كانت تعمل على طمس معالم الشخصية التونسية بالفرنسة والمسخ والتغريب.
بعد استقلال البلاد في العام 1956، أصبحت الهوية فكرا وجسرا للعبور إلى التحديث والمدنية والعصرنة. ويذهب كاتب هذه السطور إلى ما يذهب إليه الصحافي التونسي، الزميل زياد كريشان، أن حركات الإسلام السياسي الوافد حديثا على المجتمع التونسي لم تكن تستعمل مطلقا مفهوم "الشخصية الوطنية" أو "الهوية العربية الإسلامية"، لسببٍ يخصّ المرجعية الفكرية والفلسفية لهذه الجماعات، فالهوية نتاج التاريخ، وتصورات البشر، وإبداعاتهم وأحلامهم وأخلاقهم، بينما ".. حلم الإسلام السياسي هو إعادة الناس أفرادا ونظما ومجتمعات إلى حالة من النقاوة و(المثالية) العقائدية، والخارجة عن الزمان والمكان..".
كان الإسلام السياسي دائما ضد الهوية الوطنية أو القومية، باعتبارهما انحرافاتٍ عن العقيدة الصحيحة، ونوعا من أنواع الاستلاب الحضاري.

(5)
يرى الشاذلي القليبي، ونحن معه، أن منبع ثقافة التونسيين الإسلامية مؤسسة جامع الزيتونة، فالإسلام، بفضل هذه المؤسسة المباركة، متأصل منذ قرون في جميع فئات المجتمع التونسي: "فلا حاجة بنا إلى حملات جماهيرية للتوعية بتعاليم الإسلام، إذ هي حاضرة ثابتة، جيلا بعد جيل، في ضمائر الجميع كافة.." أما ما قام به زعيم التحديثيين ومؤسس الدولة المدنية التونسية، الحبيب بورقيبة، من أعمال تحديثية، فهي من خلال اجتهادات طبقا للمنطق الإسلامي لا من خارجه، وبالاستناد إلى آيات قرآنية، مثل التي تتعلق بتعدّد الزوجات وتعذر العدل، والإنصاف بينهن جميعا، وفي ذلك إشارة إلى أن الإسلام يحبذ الاقتصار على زوجة واحدة (شهادة للشاذلي القليبي).
(6)
يواصل التونسيون اليوم جدلهم بشأن الهوية، ولعلهم سيضطرون لخوض معركة أخرى من معاركهم الحضارية أمام قطعيات "الشريك المحافظ" في الحكم ومآزقه، أمام سيرورة التحديث التي يمضي باتجاهها مجتمعٌ بأسره. فلا مجال اليوم أمام التونسيين، أحزابا في الحكم وعلى هامشه أو تعارضه ومجتمعا مدنيا ونخبا، غير التفاوض والعمل المشترك من أجل مجتمع متعايش ودولة قوية، وعكس ذلك هو الفشل والانهيار، وغرق السفينة في غياهب البحار، حيث لا نجاة لأحد.
معركة الهوية اليوم تدار على عتبات الفوضى.. ليس بعيدا عن الفوضى ذاتها.
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
محمد أحمد القابسي

كاتب وأكاديمي وشاعر تونسي

محمد أحمد القابسي