03 نوفمبر 2024
تونس.. أردوغان والانقسام
ما زار الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بلدا إلا وأثار غبارا كثيفا، وترك وراءه جدلا سياسيا وإعلاميا بين خصومه وأنصاره. ولم تكن تونس استثناءً عن هذه القاعدة. إذ انطلق الخوض في أهداف زيارته، حتى قبل أن تحط طائرته في مطار قرطاج الدولي. وما أن رفع أصابعه الأربع عند مدخل القصر الرئاسي، حتى ضجّت الأجواء ومساحات التواصل الاجتماعي بالتعاليق والاحتجاجات بين مناهضٍ ومؤيد. كما انقسمت الطبقة السياسية بين من رأى في نتائج الزيارة دعما قويا لتونس في هذا الظرف الصعب، في مقابل من اعتبرها "اعتداء" على البلاد والعباد، ووصفها بالكارثة التي حلّت بتونس، حتى بلغ الأمر بأحدهم أن احتج على الاتفاقية التي تم إبرامها في مجال التعاون العسكري، وطالب بإلغائها، بحجة أن الجيش التركي قد أصبح في عهد أردوغان "جيشا عقائديا إسلامويا"، لا يجوز إرسال الضباط التونسيين لتلقي تدريبات في ثكناته وبإشراف من كوادره؟
صحيح أن هناك ضرورة لمراجعة حجم التبادل التجاري بين البلدين الذي تم حتى الآن على حساب الطرف التونسي. ولكن لأن السجال في تونس طالما تحول، في أكثر من مناسبة، إلى تراشق أيديولوجي، فقد سقط بعضهم في مطب تقليب صفحات الماضي البعيد، بشن هجوم على التاريخ العثماني، واتهام العثمانيين باضطهاد التونسيين، ونهب ثرواتهم واحتلال بلادهم. وهو ما أثار حفيظة المؤرخ المختص في التاريخ العثماني، عبد الجليل التميمي، إلى القول في رسالة نشرها، أخيرا، إن زيارة أردوغان "كشفت المستور، وبينت مدى عبث بعض الأحزاب التونسية تماما بالمعطيات التاريخية الثابتة لبلادنا، وكم هو مؤسفٌ حقا أن يسمح إعلامنا لهذه القيادات السياسية بتناول ملفات تاريخية، معينة ودقيقة، بهذا الأسلوب المبتذل حقا وغير الأمين". فإسقاط القمع الشديد الذي مارسه العثمانيون في الشام ضد الوطنيين على ما حصل في تونس يمثل خطأ منهجيا غير مقبول أو مبرّر، لأن العلاقة، في المثال الأول، كانت هيمنية وقاسية، في حين قام العثمانيون في تونس بتحرير البلاد من الاستعمار الإسباني، ثم اندمجوا في النسيج التونسي، واتخذوا مسافةً كبرى تجاه الأستانة إلى حد الاستقلال عنها، وذلك من دون التقليل من سوء إدارة كثيرين من بايات الأسرة الحسينية لأوضاع الدولة والمجتمع.
لم يميّز كثيرون ممن انتقدوا الزيارة بين أهمية العلاقات التي تجمع بين الدولتين في هذه المرحلة الصعبة التي تمر بها عملية الانتقال السياسي، وما يجري داخل تركيا من صراع حزبي شرس، تجاوز الخطوط الحمراء في مجال احترام حقوق الإنسان والحريات. فهذا الخلط بين الملفين كشف عن ضعف ثقافة الدولة لدى بعضهم، لأن السياسة الخارجية لأي دولة لا تُبنى على تقييم الأوضاع الداخلية للأطراف التي سيتم التعاون معها. إذ لو كان ذلك هو الأساس لأعلنت تونس عن قطع علاقاتها مع دول كثيرة، مثل روسيا والصين ومعظم الدول العربية والأفريقية التي تُنتهك فيها الحريات وحقوق الإنسان صباحا ومساء ويوم الأحد.
انتقدتُ بوضوح أسلوب إدارة أردوغان الأوضاع الداخلية، وجنوحه المتزايد نحو احتكار السلطة في بلد تعدّدي وديمقراطي، لكن الموضوعية تقتضي الأخذ بالاعتبار نقاط القوة في تركيا التي تشهد صعودا سياسيا واقتصاديا وتكنولوجيا وعسكريا وسياحيا ضخما، ومثيرا للإعجاب. إذ بذلك يتم التوصل إلى تقييم موضوعي ونزيه لهذه التجربة المثيرة للجدل. فكل من زار تركيا، في السنوات القليلة الماضية، لم يستطع أن يخفي إعجابه بما تحقّق على الأرض. وفي المقابل، لا يجوز أن يكون هذا التقدّم مبررا كافيا للتغاضي عن مخاطر التضييق على الحريات وانتهاك الحقوق الأساسية لمعارضي الحزب الحاكم. ولهذا كان سلوك نقابة الصحافيين التونسيين مشروعا عندما احتجت على اعتقال الإعلاميين الأتراك، وطالبت برفع القيود عن حرية التعبير والفكر في تركيا.
المعركة المشروعة سياسيا ضد حركة النهضة يجب ألا توقع أصحابها في التضحية بمصالح البلاد من أجل وضع الكرة خارج الشباك.
صحيح أن هناك ضرورة لمراجعة حجم التبادل التجاري بين البلدين الذي تم حتى الآن على حساب الطرف التونسي. ولكن لأن السجال في تونس طالما تحول، في أكثر من مناسبة، إلى تراشق أيديولوجي، فقد سقط بعضهم في مطب تقليب صفحات الماضي البعيد، بشن هجوم على التاريخ العثماني، واتهام العثمانيين باضطهاد التونسيين، ونهب ثرواتهم واحتلال بلادهم. وهو ما أثار حفيظة المؤرخ المختص في التاريخ العثماني، عبد الجليل التميمي، إلى القول في رسالة نشرها، أخيرا، إن زيارة أردوغان "كشفت المستور، وبينت مدى عبث بعض الأحزاب التونسية تماما بالمعطيات التاريخية الثابتة لبلادنا، وكم هو مؤسفٌ حقا أن يسمح إعلامنا لهذه القيادات السياسية بتناول ملفات تاريخية، معينة ودقيقة، بهذا الأسلوب المبتذل حقا وغير الأمين". فإسقاط القمع الشديد الذي مارسه العثمانيون في الشام ضد الوطنيين على ما حصل في تونس يمثل خطأ منهجيا غير مقبول أو مبرّر، لأن العلاقة، في المثال الأول، كانت هيمنية وقاسية، في حين قام العثمانيون في تونس بتحرير البلاد من الاستعمار الإسباني، ثم اندمجوا في النسيج التونسي، واتخذوا مسافةً كبرى تجاه الأستانة إلى حد الاستقلال عنها، وذلك من دون التقليل من سوء إدارة كثيرين من بايات الأسرة الحسينية لأوضاع الدولة والمجتمع.
لم يميّز كثيرون ممن انتقدوا الزيارة بين أهمية العلاقات التي تجمع بين الدولتين في هذه المرحلة الصعبة التي تمر بها عملية الانتقال السياسي، وما يجري داخل تركيا من صراع حزبي شرس، تجاوز الخطوط الحمراء في مجال احترام حقوق الإنسان والحريات. فهذا الخلط بين الملفين كشف عن ضعف ثقافة الدولة لدى بعضهم، لأن السياسة الخارجية لأي دولة لا تُبنى على تقييم الأوضاع الداخلية للأطراف التي سيتم التعاون معها. إذ لو كان ذلك هو الأساس لأعلنت تونس عن قطع علاقاتها مع دول كثيرة، مثل روسيا والصين ومعظم الدول العربية والأفريقية التي تُنتهك فيها الحريات وحقوق الإنسان صباحا ومساء ويوم الأحد.
انتقدتُ بوضوح أسلوب إدارة أردوغان الأوضاع الداخلية، وجنوحه المتزايد نحو احتكار السلطة في بلد تعدّدي وديمقراطي، لكن الموضوعية تقتضي الأخذ بالاعتبار نقاط القوة في تركيا التي تشهد صعودا سياسيا واقتصاديا وتكنولوجيا وعسكريا وسياحيا ضخما، ومثيرا للإعجاب. إذ بذلك يتم التوصل إلى تقييم موضوعي ونزيه لهذه التجربة المثيرة للجدل. فكل من زار تركيا، في السنوات القليلة الماضية، لم يستطع أن يخفي إعجابه بما تحقّق على الأرض. وفي المقابل، لا يجوز أن يكون هذا التقدّم مبررا كافيا للتغاضي عن مخاطر التضييق على الحريات وانتهاك الحقوق الأساسية لمعارضي الحزب الحاكم. ولهذا كان سلوك نقابة الصحافيين التونسيين مشروعا عندما احتجت على اعتقال الإعلاميين الأتراك، وطالبت برفع القيود عن حرية التعبير والفكر في تركيا.
المعركة المشروعة سياسيا ضد حركة النهضة يجب ألا توقع أصحابها في التضحية بمصالح البلاد من أجل وضع الكرة خارج الشباك.